مناقشة الفخر الرازي
بعد أن بيَّن الفخر الرازي في تفسيره الكبير إستدلال القائلين بوجوب المسح بناءً علي قراءة النصب والجرّ وقبله وارتضاه، قام بالإجابة عنه بجواب واحد فقط ورآه متيناً حيث قال:
«إن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل علي المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلي الإحتياط، فيجب المصير إليه»19 .
ورأي من خلال هذا الكلام إمكان الجمع بين دلالة الآية علي وجوب المسح، ودلالة الأخبار علي لزوم الغسل، وذهب إلي أن الغسل أقرب إلي الإحتياط.
وهذا الكلام من الفخر الرازي غير صحيح، وذلك:
أوّلاً: لأن الغسل والمسح مفهومان متباينان، وإنما يمكن الإحتياط بين أمرين إذا لم يكن هناك تباين بينهما، وكان بينهما قدر متيقّن.
ثانياً: نجد أن الآية الشريفة قد عطفت مسح الرأس والأرجل علي غسل الوجه والأيدي، والعطف يقتضي التغاير، ولو فرضنا إمكان الجمع بين الغسل والمسح، فإن الآية الشريفة التي لها ظهور قوي بازائهما مجتمعين، تدل علي أن المراد مسحٌ لا غسلَ فيه.
مناقشة القرطبي
بعد أن نقل القرطبي في تفسيره كلام الطبري القائل بالتخيير، ذكر أن النحّاس يري أن الجمع بين الغسل والمسح أفضل الأقوال، ونقل عن ابن عطية أن جماعة من الذين قرأوا «وأرجلكم» بالكسر، ذهبوا إلي أن مسح الأرجل عبارة عن غسلها ثم قال:
«قلت: وهو الصحيح، فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعني المسح ويطلق بمعني الغسل. قال الهروي: أخبرنا الأزهري.. عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلاً ويكون مسحاً، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه قد تمسّح ... فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعني الغسل فترجح قول من قال إن المراد بقراءة الخفض الغسل»19.
أوّلاً: كما تقدّم أن قلنا أن المسح والغسل مفهومان متباينان، وما نُقل عن أبي زيد الأنصاري لا يثبت أن الغسل قد يستفاد من لفظ المسح علي الحقيقة، إذ ما ورد عن أبي زيد أنه روي إستعمال المسح في الغسل والإستعمال أعم من الحقيقة.
وما استشهد به من أن الرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه يقال عنه أنه قد تمسح لا يصلح شاهداً علي ذلك، فإن الذي يتوضأ يمسح في العادة علي أعضاء وضوئه، وعليه قد يكون إطلاق «التمسّح» بهذا الإعتبار، أو باعتبار إزالة القذارة المعنويّة والذنوب.
ثانياً: لو سلمنا أن المسح يعني الغسل، إلا أن هذا إنما يكون إذا لم تذكر كلمة المسح مع الغسل في كلام واحد، وفي الآية الشريفة وردت كلمتا الغسل والمسح في كلام واحد متّصل، وهذا يشكّل قرينة واضحة علي أن المسح يختلف عن الغسل، كما هو الحال في كلمة الفقير والمسكين، فإنهما يستعملان في معنيً واحد ولكنّ هذا في حالة الأفتراق، وأما إذا استعملا في كلام واحد، كما في قوله تعالي
اِءنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ...)20 فسيكون هناك إختلاف بينهما21.
ثالثاً: إستعملت الآية الشريفة كلمة «إمسحوا» مرة واحدة فقط، وقد تعلقت أولاً بكلمة «برؤوسكم»، ومن ثمّ تعلقت بـ «وأرجلكم» وفيما يتعلق بـ «رؤوسكم» لا شكّ في أن المراد هو المسح وليس الغسل، فكيف يكون المراد منها فيما يتعلق بـ «أرجلكم» هو الغسل؟!
مناقشة السیوطي
يري السيوطي في كتاب (الإتقان)22 أن من الموارد التي يتعين علي الناظر في القرآن الإلتزام بها هي تجنّب الأمور البعيدة والوجوه الضعيفة والكلمات الشاذة، وعدم حمل القرآن الكريم عليها وعدّ منها الجرّ بالمجاورة الذي حملت عليه كلمة «أرجلكم» في الآية الشريفة، ثم قال:
«لأن الجرّ علي الجوار ضعيف شاذ لم يرد منه إلا أحرفٍ يسيرة والصواب أنه معطوف علي برؤوسكم، إلا أن المراد به مسح الخف».
وهذا الكلام الأخير من السيوطي غير صحيح أيضاً، وذلك:
أوّلاً: لأن المسح علي الخفين ليس مسحاً علي الأرجل، وقد أمرت الآية بمسح الرأس والأرجل، ولو كانت الأرجل قد استعملت بمعني الخفّ، فهو إستعمال مجازي وعلي خلاف الأصل، إذ الأصل هو الإستعمال علي نحو الحقيقة.
ثانياً: إن ذكر كلمة «أرجلكم» بإزاء «رؤوسكم» قرينة علي أن المراد هو الأرجل وليس الخفّ.
ثالثاً: إن هذا التقييد يستلزم خروج أكثر الأفراد من مورد الآية، إذ لو كان المراد هو المسح علي الخف كان معني ذلك أن الآية قد بينّت حكم المسح علي الرجل إذا كانت في الخف.
مناقشة الزمخشري
ذهب الزمخشري في تفسيره بناءً علي قراءة «أرجلكم» بالجر، إلي عطفها علي «برؤوسكم»، وقال:
«قلت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة، تغسل بصبّ الماء عليها فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت علي الثالث الممسوح، لا لتمسح ولكن لينبّه علي وجوب الإقتصاد في صبّ الماء عليها»23 .
أوّلاً: لم يذهب القائلون بمسح الأرجل إلي مسحها من دون تحديد، وعليه لا مانع إن دخلت (وأرجلكم) في حكم المسح، أن يكون حدّها (إلي الكعبين).
ثانياً: لم تستعمل الآية الشريفة كلمة (إمسحوا) إلا مرة واحدة، فكيف يكون المراد منها فيما يتعلق بالرأس المسح علي نحو الحقيقة، وفيما يتعلق بالأرجل المجاز.
ثالثاً: ذكر المسح بإزاء الغسل في الآية الشريفة يدل بوضوح علي أنّ حكم الرأس والأرجل هو المسح وليس الغسل.
رابعاً: ما هي خصوصية غسل الأرجل التي تميّزها من غسل الوجوه والأيدي فيعبّر عنها بالمسح للحيلولة دون الإسراف خلافاً للوجه والأيدي، فهل يجوز الإسراف فيهما؟! بل بالنظر إلي أن الأرجل في معرض الإتساخ والإصابة بالقذر يوجب التأكيد علي زيادة غسلهما، لا أن يكون غسلهما أقرب إلي المسح الواجب. والحقيقة إن هذهِ التوجيهات التي فيها من الكلفة البعيدة عن الفهم العقلائي والإرتكاز العرفي، وما الي ذلك، لم تكن إلا لأنهم ذهبوا إلي أن غسل الأرجل هو الحكم القطعي، فأدّي بهؤلاء المفسرين المختصّين في فهم أسرار الكلام ودقائقه إلي الإبتعاد عن المعني الظاهر من الآية، وما تريد الآية بيانه.
وعليه لابدّ من البحث في الروايات التي تبيّن حكم الأرجل في الوضوء.
مسح الأرجل في روایات الشیعة الإمامیة
إن روايات الشيعة الإمامية الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والتي يحكي الكثير منها صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)تدل علي مسح الأرجل دلالة واضحة.
ومنها تلك الرواية الواردة في غسل الأيدي التي نقل فيها مسح الأرجل من قبل النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله) وفي رواية زرارة وبكير سئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن وضوء النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله)، فأخذ الإمام (عليه السلام) يحكي لهم صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) حتي قال: «ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفه، لم يحدث لهما ماءً جديداً»24.
وهناك الكثير من روايات الشيعة في هذا المجال، فراجع وسائل الشيعة الجزء الأوّل في الصفحة 272 فما بعد، وهي صريحة بإفادة المعني الذي أفادته الآية الكريمة.
أحادیث أهل السنة في حکم الأرجل في الوضوء
إن الأحاديث المذكورة في المصادر الحديثية لدي أهل السنة في بيان حكم الأرجل في الوضوء كثيرة، والتي يستدل بها علي وجوب غسل الأرجل علي ثلاث مجموعات:
1- الأحاديث التي تحكي صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، والتي ذكرت أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) كان يغسل قدميه.
2- الأحاديث التي روت أمر النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) بغسل الأرجل في الوضوء.
3- الأحاديث التي روي فيها تهديد الأعقاب بالنار، والتي يستدلّ بها علي وجوب غسل الأرجل وعدم مسحها.
أما الأحاديث التي تحكي صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) فنكتفي منها بذكر حديثين:
1- «عن حمران مولي عثمان بن عفان أنه رأي عثمان دعا بوضوءٍ فافرغ علي يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات. ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلي المرفقين ثلاثاً، ثمّ مسح برأسه، ثم غسل كلّ رجل ثلاث مرات، ثم قال: رأيت النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) يتوضأ نحو وضوئي هذا»25.
2- عن عبد اللّه بن زيد قال: أتي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) فأخرجنا له ماءً في تورٍ من صفر فتوضأ فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين مرتين ومسح برأسهِ وغسل رجليه26.
ومن المجموعة الثانية نذكر حديثاً واحداً:
«عن جابر بن عبد اللّه قال: امرنا رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا»27.
ومن المجموعة الثالثة نذكر حديثاً واحداً أيضاً:
«عن عبد اللّه بن عمرو قال: تخلف النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح علي أرجلنا، فنادي بأعلي صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً»28 .
لا يخفي أن هذا النوع من الروايات التي فيها تهديد للأعقاب بالنار ليس فيها دلالة علي وجوب غسل الأرجل بوصفه جزءاً من الوضوء، بل ربما كان المراد منها منع بعض الأشخاص من الدخول في الصلاة بأرجلٍ متنجّسة، ومما يؤيّد هذا الإحتمال القرينة الموجودة في نفس هذهِ الرواية، وهي أن الراوي لم ينسب المسح لنفسه فقط، وإنما نسبه إلي جماعة من الصحابة، فيتضح أن الصحابة كانوا يمسحون أرجلهم، فلو كان النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) يريد أن يردعهم عن ذلك وأن يأمرهم بغسل أرجلهم، كان عليه أن يأتي ببيان صريح بذلك كأن يقول لهم: «لا تمسحوا علي أرجلكم ولكن إغسلوها»، في حين أنه لم يقل ذلك، واكتفي بتهديد الأعقاب بالعذاب بالنار فقط، وهذا ليس صريحاً في الردع عن المسح علي الأرجل.
وأما الأحاديث الاُخري التي تروي أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) كان يغسل قدميه في الوضوء أو تلك التي تروي أمر النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) بغسل الأرجل، ففيها:
أوّلاً: إنها مخالفة للآية الشريفة، ولا يمكن عدّ مثل هذهِ الأحاديث من سنة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) .
ثانياً: إنها معارضة بالأحاديث التي تحكي المسح عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله)، ولا بأسَ باستعراض بعض تلك الأحاديث