وسام متى - تخلّص المصريون سريعاً من «مؤامرة» الفراغ الأمني فأصبحوا أكثر استعداداً لحسم معركة التغيير. هكذا بدت الصورة في بداية الأسبوع الثاني من «انتفاضة 25 يناير». عشرات الآلاف نزلوا مجدداً إلى ميدان التحرير في وسط القاهرة برغم قرار حظر التجوال، وهم على يقين بأن تنحّي الرئيس حسني مبارك أصبح مسألة أيام، إن لم يكن ساعات، بعدما كان الأمر بالنسبة للبعض هدفاً يستحيل تحقيقه.
ما زال نظام حسني مبارك يناور. يعيّن الرئيس نائباً له. يكلف آخرَ لتشكيل الحكومة. يعرض التلفزيون المصري صوراً صامتة له مع مسؤولين سياسيين وعسكريين، ثم يبث سلسلة قرارات حول تعيينات حكومية وإدارية لا ترضي مطلب الجماهير الثائرة بالتغيير الشامل.
يأمر النظام «البلطجية» و«الشرطة السرية» بإشاعة الفوضى لإرغام المواطنين على الاهتمام بأمنهم الذاتي بدل المشاركة في عملية التغيير، تحت شعار غير معلن وهو «إما أنا... وإما الفوضى!». يحاول تمرير الوقت، معتقداً بأن ألاعيبه قادرة على استنزاف المتظاهرين، فتتعب حناجرهم من الهتاف بـ«الشعب يريد إسقاط النظام» و«يسقط يسقط حسني مبارك»، وينضب وقود انتفاضتهم فتخمد نيرانها ذاتياً.
لكن رياح الشارع ما زالت تسير بعكس ما تشتهي سفن قصر الرئاسة في مصر الجديدة، فقد تحرّر المصريون بسرعة قياسية من شبح الفراغ الأمني، بعدما تمكنّوا من تكريس أمنهم الذاتي، ما أفشل «المؤامرة الأمنية» التي حاولت بقايا النظام فرضها، وهو ما تبدّى في قرار إعادة نشر الشرطة، وتدفق نحو ربع مليون متظاهر إلى ميدان التحرير، استعداداً للمسيرات المليونية قد تدخل تاريخ مصر من أوسع أبوابه، ليس بسبب حجمها فحسب، وإنما في النتائج السياسية المترتبة عليها.
النصر القريب
«انتهى الأمر... سيرحل مبارك إن لم يكن اليوم فغداً». عبارة قالها الشاب محمد لـ«السفير» في اليوم الثاني من «انتفاضة 25 يناير»، وعاد ليردّدها مجدداً أمس، ولكن هذه المرّة بثقة أكبر. وأضاف محمد، وسط هتافات عالية في ميدان التحرير، «أشعر وكأني أعيش في حلم... ليس حلماً بل حقيقة... تحرير مصر أصبح أقرب من أي وقت مضى»، وتابع «نحن باقون هنا، ولن نغادر قبل أن يرحل مبارك»، مشدداً على أن «رهان مبارك على أننا سنتعب ليس سوى وهم سيكتشفه عندما يهتف الملايين ضده في المسيرات المليونية».
من جهتها، تساءلت زينب «ماذا ينتظر (مبارك) حتى يستقيل؟ ألا يخجل من نفسه بعد ما سمعه من شتائم واتهامات؟». وأضافت زينب، في اتصال مع الـ«السفير» من ميدان التحرير، «غداً يوم الحسم، فالملايين سيهتفون ضده بصوت واحد، وإن لم يرضخ لإرادة الشعب فلكل حادث حديث»، مشددة على أنّ «ميدان التحرير لن يخلو أبداً من الناس حتى يتحقق التغيير الذي أراه قريباً أكثر من أي وقت مضى».
بدوره، قال المتحدث باسم «الحزب الشيوعي المصري» صلاح عدلي، في اتصال مع «السفير»: «أنا الآن في ميدان التحرير، أشاهد أمامي عشرات آلاف يهتفون بمطلب واحد، وهو إسقاط الرئيس»، معتبراً أن «التظاهرات المستمرة في شوارع القاهرة والإسكندرية والفيوم والمنصورة وباقي المحافظات، برغم حظر التجوال، شكلت الرد العملي من قبل الشعب على الحكومة الجديدة» التي تشكلت بالأمس.
وشدد عدلي أن الشعب المصري برهن خلال الأيام الماضية عن وعي كبير، وهو ما ظهر في «قدرته على إجهاض مؤامرة أمنية واضحة المعالم، استخدم فيها النظام البلطجية وعملاء الشرطة السرية والخارجين على القانون لمعاقبة الشعب على مشاركته في التظاهرات عبر تخريب البلد وإشاعة الفوضى».
ورأى عدلي أن «المسألة هي مسألة وقت، فإن أصرّ النظام على موقفه فستستمر التظاهرات، وهو ما سنترجمه بالمسيرة المليونية التي ستكون مفصلية، والتي سيرافقها إضراب عام في كل المحافظات المصرية».
بدوره، أكد القيادي في حركة «كفاية» عبد الحليم قنديل لـ«السفير» أن مسيرة الغد «ستكون أكثر من مليونية»، موضحاً أن الطابع المليوني لن يقتصر على القاهرة وحدها، وهو ما تؤكده الاستعدادات الجارية في الإسكندرية والمنصورة وغيرها من المدن.
أما أمين شؤون السياسات في حزب «التجمع» اليساري نبيل زكي فأكد لـ«السفير» أن الثورة المصرية ستشهد «يوم الذروة» من خلال المسيرات المليونية المرتقبة، موضحاً أن «الحشد الجماهيري سيكون أكبر من أي وقت مضى، وسيكون أشبه بعصيان مدني يشمل كل المدن المصرية الكبرى، وسيعبر عن موقف الجماهير المصرية من هذا التشكيل الحكومي الهزيل». وأضاف أن «مستوى الوعي في الشارع المصري وصل إلى مستوى لا يمكن لأحد أن يتصوّره، فهو يدرك أن الحكومة أداة تنفيذية، أو على الأصح سكرتاريا، بيد رئيس الجمهورية، الذي يملك صلاحيات مطلقة»، لافتاً إلى أن نظام مبارك بات أمام خيارين: «إما اللجوء إلى القمع الدموي، وهو أمر مستبعد، أو الخضوع لمطالب الشارع».
وشدّد زكي أن «ما يجري في الشارع يؤكد أنه يستحيل على مبارك أن يحكم بعد اليوم، بعدما أحرق كل أوراقه البالية وأصبح وضعه شبيهاً بما حدث مع شاه إيران خلال الثورة». وأوضح أن ما يحاول طرحه من «حلول ترقيعية» لم يعد ينفع، لأن «السياسة محكومة بالتوقيت»، معتبراً أنه «لو كان مبارك قد عيّن نائباً له، أو أقال الوزارة، قبل أشهر، لكان من الممكن على الجماهير أن تستقبل ذلك بإيجابية، أما بعد هذه الانتفاضة فإنّ لا قيمة ولا تأثير لكل ما يتخذ من خطوات».
مرحلة ما بعد مبارك
وعلى وقع ما تشهده شوارع القاهرة من انتفاضة شعبية غير مسبوقة، تستعد قوى المعارضة لمرحلة ما بعد حسني مبارك، من خلال تشكيل لجان شعبية لم تقتصر المشاركة فيها على المعارضة التقليدية، بل شملت فئات شبابية جديدة كان لها الفضل الأول في إطلاق الثورة.
وفي هذا الإطار، شدّد عدلي على أنّ «لا خيار أمام النظام سوى الاستجابة لمطالب الشعب المتمثلة بتنحي مبارك وتشكيل حكومة انتقالية لفترة محددة، وإنشاء مجلس رئاسي من شخصيات مشهود لها بالنزاهة والاستقلالية وتمثل الأحزاب السياسية والجمعيات الشبابية، وانتخاب جمعية تأسيسية لإعداد دستور جديد للبلاد يضع مسودته قانونيون وخبراء مشهود لهم بالكفاءة، بالإضافة إلى إطلاق الحريات السياسية والإعلامية بأشكالها كافة».
وأضاف «نحن شكلنا لجنة من عشرة أعضاء لوضع المطالب الشعبية حيّز التنفيذ، وهي تضم كل القوى الشعبية، مع الإشارة إلى أن (الدكتور محمد) البرادعي ليس مفوضاً وحيداً من قبلها»، مشيراً إلى أنّ «اللجنة منفتحة على التعاون مع الجميع، وهي ترحّب بانضمام أي شخصية إليها، بما يسهم في تحقيق التغيير».
بدوره، أشار زكي إلى أن «جميع أحزاب المعارضة، كالوفد والتجمع والناصري والجمعية الوطنية للتغيير والحركات الشبابية الجديدة، اتفقت على موقف موحد، وهو ألا يقفز أحد فوق إرادة شباب مصر، لأن الثورة ملك لجماهيرها، وليس من حقنا، نحن الأحزاب، أن نكون أوصياء عليها، خاصة أن الجماهير سبقت الجميع، وقد نزلت إلى الشارع وعرفت طريقها وهي لن تتراجع».
وأضاف أن «التجمّع» منفتح على أي صيغة تطرح لتنظيم هذه الثورة وتحقيق مطالبها، لكنه يقترح اعتماد الصيغة المتبعة في كل الثورات، وهي إقامة «جبهة وطنية عريضة» لا تقتصر على أحزاب المعارضة بل تضم كل الحركات الشبابية والشخصيات المستقلة المشهود لها بالنزاهة.
من جهته، شدد قنديل على كل القوى السياسية التحقت بالثورة التي أطلقها الشعب وبالتالي فإنّ القرار السياسي يجب أن يكون ملكاً للشعب الذي تحرك تحت شعار واحد وهو إسقاط نظام مبارك. وأضاف «نحن ننتقل الآن من حكم العائلة إلى حكم الشعب، وبالتالي فإن الحديث يدور عن مرحلة انتقالية، في ظل رئاسة موقتة لفترة سنة، يتم خلالها تشكيل حكومة ائتلافية وإنشاء هيئة تأسيسية لوضع دستور جديد، مع إطلاق الحريات السياسية».
وأشار قنديل إلى أنه في حال خلا مقعد الرئيس فإنّ الرئاسة تنتقل إلى رئيس مجلس الشعب، ولكن في حال كان المجلس باطلاً، وهو الوضع القائم حالياً لأنه يضم أزلام النظام، فإن الرئاسة تنتقل إلى رئيس المحكمة الدستورية، لكنه أشار إلى أن ثمة خياراً آخر محتملاً وهو تشكيل رئاسة موقتة تضم جنرالاً وعدداً من القضاة، لكن المعارضة تتجه إلى خيار «الحكومة الائتلافية» و«الرئاسة الإجرائية الموقتة».
وحول ما يطرح من أسماء لتولي الرئاسة، لفت قنديل إلى أن البرادعي ليس موضع إجماع، وبالتالي سيكون من الصعب عليه أن يحكم، وكذلك الحال بالنسبة لنائب الرئيس عمر سليمان، الذي يرى كثر أنه شخصية نظيفة، لكن آخرين ينتقدون علاقاته بإسرائيل.
الثورة والجيش
وفي ظل الحديث عن مرحلة ما بعد مبارك، تبدو العلاقة بين المعارضة وبين الجيش غير واضحة بعد، ما يثير التساؤلات حول موقف المؤسسة العسكرية مما يجري.
وفي هذا الإطار، رأى عدلي «موقف المؤسسة العسكرية رائع حتى الآن، والجيش يبدو حاسماً في عدم استخدام القوة ضد المتظاهرين»، لافتاً إلى أنّ «الأيام الماضية أظهرت أن العلاقة بين الجيش والشعب ممتازة»، وهو ما يؤكده زكي الذي أشار إلى أن «المؤسسة العسكرية لن تقف ضد الشعب، والدليل أن التظاهرات تتواصل برغم حظر التجوال»، متوقعاً أن «يستمر الجيش في وقوفه مع مطالب الشارع».
بدوره، شدّد قنديل على أن «الجيش لن يدخل في صدام مع الشعب»، خاصة أن المصريين يرون أنه «مدرسة لتخريج الثوار». وأشار إلى أنّ المرحلة الماضية شهدت صراعاً بين المؤسسة العسكرية والنخبة الاقتصادية القريبة من جمال مبارك، وكان يريد خروجاً أقل إهانة لمبارك، من خلال انتظار موعد الانتخابات الرئاسية في أيلول المقبل. لكن الثورة الشعبية أدت عملياً إلى إخراج النخبة الاقتصادية من دائرة الصراع، ما يعني أن الحكم أصبح الآن متوقفاً على شكل التفاعل بين الجيش والمعارضة.
من الواضح أن الجميع في مصر على يقين بأن صفحة مبارك قد طويت إلى الأبد. لكن ساعة الصفر قد أصبحت بيد الشعب والجيش معاً، اللذين أصبحا صاحبي القرار، بعدما خلطت «انتفاضة 25 يناير» أوراق اللعبة السياسية، ما يؤكد أن مصر مقبلة على مرحلة جديدة لن ننتظر كثيراً حتى تتضح معالمها.
السفير