لا يوجد تعريف محدّد أو على الأقلّ متّفق عليه بين الأوساط الأكاديمية لتلك الحالة التي تتمثّل بحالة "الوعي". و جميع التعريفات كانت (و لازالت) متوارثة من بحث لآخر بشكل متكرّر دون محاولة تفسيرها أو الوقوف عندها حتى تعرّف بشكل صحيح .
لذلك كانت و لازالت تعريفات ناقصة بلا جدوى ، كالتعريف الذي يقول "الوعي هو الإدراك" أو "الوعي هو صحوة الفكر أو العقل" . و يمكن أن تكون مجرّد تعريفات توصيفيّة مثل: " يتجسّد الوعي كأحاسيس أو أفكار أو شعور". أما التعريف العام الذي اتفق عليه العاملون في المنهج العلمي السائد هو كالتالي :
ـ الوعي هو ناتج أساسي من الأحاسيس الخارجية المستمدّة من البيئة ، فالحواس تنقل المعلومات الحسّية إلى جذع الدماغ ، و خاصة التشكّل الشبكي RETICULAR FORMATION ، و الذي بدوره ينقل و يوزّع هذه المعلومات إلى المناطق المختصّة في القشرة الدماغية و التي تغذّي بدورها ، و بشكل ارتجاعي ، التشكّل الشبكي الذي يعمل على نقل ردود الأفعال إلى الأعضاء الحركية للتعامل مع المستجدّات البيئية . هذا هو التفسير العلمي لعملية أو ظاهرة "الوعي" .
بالإضافة إلى المشكلة الكبيرة في تعريف "الوعي"، فقد كان لهذا الموضوع تاريخ مثير . هذا الشيء الذي يعدّ عنصر رئيسي في مجال علم النفس ، قد عانى في بعض الفترات من زوال كامل من ساحة علم النفس ، ليعود بعد حين و يصبح موضوع مثير للاهتمام الأكاديمي ، ثم يعود ليختفي مرّة أخرى . و هذا هو السبب الذي جعل التقدّم في مجال دراسة "الوعي" بطيء للغاية .
جميع الجدالات التي دارت حول حالة "الوعي" ظهرت من دراسات مختلفة حول علاقة العقل بالجّسد ، و التي أثارها الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" في القرن السابع عشر . فقد تساءل ديكارت : هل العقل منفصل عن الجسد ؟ هل للوعي أبعاد (كيان مادي) ؟ أو أن الوعي دون أبعاد ( كيان غيرمادي ) ؟ هل الوعي هو المحرّك لسلوكنا أو أنه موجّه من قبلنا ؟.
أما الفلاسفة الإنكليز مثل "جون لوك" ، فقد ربطوا حالة "الوعي" بالحواس الجسديّة و المعلومات الحسّية التي تزوّدها ( اللمس ، النظر ، الشم ، السمع ،....) .
بينما فلاسفة أوروبيون آخرون مثل "غوتفريد ولهلم ليبنز" و"إمانويل كانت" ، فقد أعطوا لحالة "الوعي" دوراً مركزياً و أكثر فاعلية .الفيلسوف الذي كان له تأثير مباشر في الدراسات و الأبحاث اللّاحقة عن حالة "الوعي" كان "يوهان فريدريك هيربيرت"، الذي كتب في القرن التاسع عشر يقول:
" إن الأفكار قد تتصف بالجودة أو الكثافة ، و يمكن للأفكار أن تنهي بعضها أو تقوم بدعم و تسهيل بعضها البعض " ، و قال أيضاً : " يمكن للأفكار أن تنتقل من حالة واقعية ( حالة واعية ) إلى حالة مزاجية لاإرادية ( حالة لاوعي ) ، و يوجد خط فاصل بين كلا الحالتين يسمّى عتبة الوعي " .
هذه الصيغة التي أوجدها "هيربيرت" كانت الخطوة الأولى في الإتجاه الذي سلكه بعده "غوستاف فيشنر" ( والد الفيزياء النفسية ) PSYCHO-PHYSICS ، و "سيغموند فرويد" صاحب مفهوم اللّاوعي UNCONSCIOUS فيما بعد .
ـ يعود تاريخ التجارب المخبرية على ظاهرة "الوعي" إلى العام 1879م , عندما بدأ عالم النفس الألماني "ويلهم ماكس وينديت" بأبحاثه المخبرية . كان هدفه في تلك الأبحاث هو دراسة بنية "الوعي" و تركيبته ، بما فيه من عناصر الإحساس ، و الشعور ، و التصوّر ، و الخيال ، و الذاكرة ، و الانتباه ، و الحركة , و غيرها من عناصر تعتبر امتداداً لحالة "الوعي". و اعتمدت أبحاثه على التقارير الناتجة من تجارب أشخاص في الحياة اليومية ، هذا النوع من البحث (الاعتماد على تقارير أشخاص) طوّره عالم النفس الأمريكي "أدوارد برادفورد تشنر" في جامعة كورنيل .
توصّل " تشنر" إلى توصيف بنية العقل معتمداً على تلك الطريقة ، فبواسطتها استطاع تحديد أنواع التذوّق و مناطقها في اللسان ، و قسّمها إلى أربعة أقسام : الحلاوة ، المرارة ، الملوحة ، الحموضة .
ـ في العشرينات من القرن العشرين ، حصل انقلاب جذري في علم النفس ، مما أدى إلى تهميش موضوع "الوعي" بشكل كامل ، و كان سبب رئيسي في إبعاده عن الساحة لمدة خمسين سنة مقبلة . لقد احتلّ موضوع "السلوك" الساحة ، و كان ذلك على يد شخصيات لها حضور كبير في علم النفس ، كالعالم الأمريكي "جون برودوس واتسون" الذي ذكر في مقالة كتبها عام 1913م: < أنا أعتقد أنه يمكننا أن نكتب في علم النفس دون استخدام
مصطلحات مثل الوعي ، حالات عقلية ، العقل ، التصوّر ، و ما شابه ذلك من مصطلحات .> ـ فتوجه الباحثون في علم النفس نحو الموضوع الجديد "السلوك"، و قاموا بتركيز جلّ اهتمامهم في هذا الاتجاه بشكل شبه حصري . فراحوا يدرسون المصطلحات الجديدة التي ظهرت حينها مثل "رد الفعل" و "الاستجابة" و "المنبّه" و "التنبيه" و غيرها من مصطلحات جديدة . فتمّ إهمال موضوع "الوعي" بشكل كامل .
و إذا راجعنا أشهر الدراسات التي تخصّ علم النفس بين عامي 1930م و 1950م ، نجد أن موضوع "الوعي" لم يذكر إطلاقاً ، و إذا ذكر في بعض هذه الدراسات ، فيتعاملون معه كموضوع تاريخي انتهت صلاحيته في مجال علم النفس . ربما لهذا السبب أخذت أفكار"سيغموند فرويد" وقتاً طويلاً لتجد لنفسها مكاناً بين الأفكار السائدة .
ـ خرج "سيغموند فرويد" على العالم بنظرية "الكبت" ، و قال أن الكبت يولّد الانفجار ، و معنى ذلك أن كبت الرغبات و الأفكار ـ خاصة الجنسية ـ تسبّب إضطرابات نفسيّة . ( قال ذلك في وقت غير هذا الوقت حيث كان الجنس مكبوت و حتى الكلام فيه كان محرّماً ) .
و قسّم فرويد العقل إلى منطقتين ، و شبّه العقل بجبل جليدي يطوف فوق مياه البحر ، و ما ظهر فوق السطح هو "الوعي"الذي هو ضئيل جداً إذا ما قيس بما خفي تحت سطح الماء (اللّاوعي) .
و قسّم شخصية الإنسان إلى ثلاثة أقسام أساسية هي : (الإد) و (الإيغو) و (السوبر إيغو) . و منطقة (الإد) هي التي تكون لاواعية كليّاً
قال فرويد أن الأمراض النفسية هي نتيجة الصراع بين الرغبات المكبوتة في اللاوعي و القوى الكابتة ، و مكانها هو بين العقلين الواعي و اللاواعي ، و من هنا تأتي المقاومة التي يبديها المريض لطبيبه ، خصوصاً في المراحل الأولى للعلاج النفسي . و اتبع فرويد طريقة جديدة في العلاج النفسي معتمداً على المبادئ التي استنتجها ، و أطلق على أسلوبه الجديد اسم "التحليل النفسي" psychoanalysis التي لم تكن معروفة حينها .
ـ مع فرويد جاء كارل غوستاف جونغ 1875م ـ 1961م ، و أضاف جديداً إلى ما عرف "باللاوعي" . كان جونغ فيلسوفاً أكثر منه طبيباً ، على عكس فرويد الذي كان طبيباً أكثر منه عالماً نفسياً .