حركة المحرومين
(الولادة، ظروف النشأة، والابعاد)
القسم الرابع: دور القيادة في بعث هذه الحركة
اولاً ـ الامام والامامة:
في تحليل لغوي عند العلامة العلايلي في كتاب " المرجع " واستنادا الى دراسة له طويلة، يفسر " الامام " بميزان خشبي كان يستعمله البناؤون لمعرفة استقامة البناء او انحرافه، والذي تحول فيما بعد الى ميزان " الزيبق "، هو المعنى الاصيل.
وفي مصطلحنا المعاصر يطلق " الامام " على علماء الدين القادة في التفكير والقول والسلوك، مع ما يشوب الالقاب في مجتمعاتنا من المجاملات والمبالغات والتمنيات.
ولكن الغاية من هذا البحث تفرض ان نفسر كلمة الامام بمعنى المصطلح المذهبي عند الشيعة ـ الشيعة الامامية. انه انسان لا اله ولا نصف اله، بلغ الكمال الذي يريده الاسلام، الانسان الفائق وليس ما فوق الانسان، انسان بلغ الكمال وبنفس الوقت القائد المسؤول لتوجيه الامة. وفي المتون الشيعية: الامام حجة الله على الارض، كتاب الله الناطق، المرآة التامة للاسلام، الاسلام المتجسد، الانسان الذي تحول في أحاسيسه وفي تفكيره وفي احكامه وفي اقواله وفي اعماله وحتى في سكوته، الانسان الذي تحول الى مستوى الميزان. كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " انا ميزان الاعمال وعلي لسانه ". وبكلمة، انه الانسان الفائق القمة وليس ما فوق الانسان. انه وصي وليس نبيا.
ثانياً - عاشوراء:
عاشوراء تاريخيا هي يوم مقتل الحسين (ع) في كربلاء والمقصود في هذه الدراسة او في محاضرتي، على الاقل المقصود من عاشوراء هو محتوى ذلك اليوم من احداث مرتبطة باسباب وبنتائج والذكريات الاحتفالية التي بدأت منذ الايام الاولى بعد المأساة واستمرت ونمت وتطورت حتى يومنا هذا.
إذاً نحن في هذه الدراسة، امام عاملين قائمين حيين فاعلين ولسنا امام حدثين تاريخيين. فالامام كما عرفناه تجسيد للرسالة، فهو باق في مركز القدوة وفي مركز القيادة، حيا كان الامام او ميتا، قوله وسلوكه وسكوته ورضاه سند نستند عليه في كتبنا الفقهية كجزء من المذهب. فالامام حكم متجسد وايمان متجسد، انتصر في المعركة او هزم او عزل لا فرق، عامل فاعل مستمر حتى الآن. وعاشوراء ايضا شهادة، والشهادة في منطق القرآن خلود وتحرك وقيادة، أعيد الى ذاكرتكم الآية الكريمة: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً " ـ أرجو الانتباه الى هذه النقطة ـ " بل أحياء عند ربهم يرزقون " [ آل عمران /169 ] ـ النمو المستمر ـ " فرحين بما اتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم" [آل عمران \170 ] ـ القيادة الدعوة.
إذاً نحن امام عاملين قائمين لا امام حدثين تاريخيين فنصل الى تفاعل العاملين الموجودين في عنوان هذا الحديث لكي يفرز هذا التفاعل لنا عناوين ثلاثة: الاول شهادة الامام، والثاني امامة الشهيد والثالث الشهادة الامام.
الاول: شهادة الامام فهي الترابط العميق بين الامام وبين الشهادة، حتى ان الشهادة جزء اساس من مسؤولية الامام القيادية.
الثاني: امامة الشهيد، فالشهيد في سبيل الله امام. ومعنى ذلك ان الشهادة بحد ذاتها قدوة وقيادة وهما في درجتيهما العاليتين اساسان لمفهوم الامامة. والشهيد العادي يتمتع بصفتين اساسيتين من صفات الامام فهو في موكب الامام.
الثالث: الشهادة الامام، واعني بها ان مستوى شهادة الامام الحسين في عاشوراء اذا درسناها بأسبابها ودوافعها النفسية وتفاصيلها ونتائجها تفوق الشهادات كلها، ولذلك نسمي الحسين " سيد الشهداء " او على حد تعبير العقاد " ابو الشهداء ". والحديث يقول: " لا يوم كيومك يا ابا عبد الله " كلمة وردت في كثير من الاثار الدينية الشيعية. اذاً، الشهادة الحسينية يوم عاشوراء هي امام الشهادات، الشهادة الامام.
ان المطلوب مني في هذه الدراسة هو العنوان الاول فحسب، يعني شهادة الامام. وأعتقد أن زملائي الأحد عشر سيؤدون دوراً موضحاً للتحدث عن الثالث: الشهادة الامام لأنهم ألقوا أضواءهم جميعاً على عاشوراء.
اما العنوان الثاني وهو امامة الشهيد، فانه بحث اجتماعي وديني مستقل تطرق اليه الكثيرون من الباحثين بالتفصيل وقد نكتفي في ذلك بالآية التي تليت حول دور الشهيد في الدعوة وفي الاثارة وفي الخلود وفي التحول الى القيم. فلندخل في صميم بحثنا ـ شهادة الامام.
ثالثاً ـ شهادة الامام:
1 ـ المبادىء الاساسية:
وهنا نحتاج الى ان نتحدث عن مفهوم الامام وضرورته عند الشيعة وابعاد معنى الامام لدى المذهب.
ولاجل ان ندرك تسلسل الفكرة ونصل الى صورة واضحة عن الامام، الينا هذه المبادىء:
اولاً: الحياة في مفهومها الديني حركة دائمة نحو الكمال والقرآن الكريم يلخص هذا بقوله:
" انا لله وانا اليه راجعون " ] البقرة \ 156 [. أي نحن في رجوع مستمر الى الله، اي الكمال المطلق. وهذا المفهوم نجده في كثير من التعاليم الدينية التي تأمر بالحركة الدائمة والسعي الدائم حتى الرمق الاخير.
ثانياً: الحركة تغيير مستمر واتجاهها نحو الكمال اللانهائي الذي هو الله يستدعي سيرها نحو الافضل، اذ الحياة في مفهومها الديني سير دائم وتغيير مستمر نحو الافضل، وبالتالي رفض الوقوف والجمود والتراجع.
ثالثاً: والتحول الواجب نحو الافضل ـ بما في ذلك التجارب والانتكاسات طبعا ـ هادىء احيانا وعنيف احيانا اخرى حسب ظروف الحركة.
رابعاً: وجود الخير والشر في الاحساس ووجود الخير والشر في الحياة، يخلقان الصراع الدائم في نفس الانسان قبل الصراع في الخارج وبالتالي فإن هذا الصراع هو الدافع المتجدد نحو الكمال.
الانسان متحركا نحو الكمال، دافعه وجود عنصر الخير والشر في نفسه وفي الخارج والا فلو لم يكن الانسان يدرك الشر او لو لم يكن الشر في الخارج لم يكن الاختيار اي الصراع او الرياضة الدائمة، وبالتالي، الكمال الدائم. وهذا مفهوم قرآني، ففي سورة الشمس يقول: " فألهمها " ـ يعني الله ألهم النفس ـ " فجورها وتقواها " [ الشمس \ 8 ] ـ يعني ان الله الهم الانسان وخلقه بحيث يحس بالشر كما يحس بالخير ـ " قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها " [ الشمس \ 9ـ10 ]ـ الفلاح أي الكمال يحصل بعد الصراع ـ وآية اخرى "وهديناه النجدين " ] البلد \ 10 [. الخالق علم الانسان طريقه الى الخير والشر، وتضيف الآية: " فلا اقتحم العقبة " ] البلد \ 11 [. الانسان المقصر ما اقتحم وما عبر المشكلة. " وما ادراك ما العقبة، فك رقبة" ] البلد \ 12ـ13 [ تحرير انسان فردا كان في يوم من الايام او جماعة في يومنا هذا. " او اطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة او مسكينا ذا متربة " ]البلد \ 14ـ16[. الاطعام يعني خلق العيش للانسان فرديا كان حسب طاقات الانسان او جماعيا. فدافع الانسان نحو الكمال وجود عنصر الخير والشر، صر اع الخير والشر المستمر في الذات، الصراع في النفس والصراع في الخارج.
خامساً: اما الدعوة الالهية فلها مراحل ودرجات: المرحلة الاولى الضمير، او على حد تعبير القرآن الفطرة ـ فطرة الله التي فطر الناس عليها. ان الضمير هو المرحلة الاولى للدعوة الالهية نحو الكمال، والضمير هو النبي الباطن. المرحلة الثانية هي النبي، النبي يأتي من الله. والنبي ضمير الكون والوجود، يساعد الانسان في صراعه هذا ويخرجه، اذا اراد، من الظلمات الى النور. هذه خلاصة دعوة الانبياء جميعا: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور " ] المائدة \ 15ـ16 ]. أي من ظلمات الجهل الى نور العلم ومن ظلمات الفقر الى نور الرفاه، وهكذا.. انهم الانبياء بعثوا من الاميين، من عامة الناس، ليزكوهم ويعلموهم الكتاب والحكمة كما ورد هذا في القرآن بالنسبة للنبي محمد. فالمرحلة الاولى من الدعوة هي الضمير والثانية دعوة الانبياء.
اما المرحلة الثالثة للدعوة فلعلها لا تخلو من غرابة ولكنها مليئة بالتفاؤل والتربية وخلق القوة من الضعف وهي المصيبة.
والقرآن الكريم له منطق خاص في هذا المجال لانه يجعل المصيبة دافعا مساعدا لانتباه الانسان ووعيه وحركته. كما ان التفاعلات الاجتماعية وظهورالفساد في البر والبحر، حسب تعبير القرآن، عامل آخر لتنبيه الانسان الى اخطائه في توجهه. يقول القرآن: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " ] الروم \41[ نلاحظ إذاً ان هناك آثارا اجتماعية سيئة نتيجة لعمل الانسان جاءت لكي تنبه الانسان، فهي نوع من الدعوة الجديدة والتذكير. هذا بالنسبة للاحداث الاجتماعية ويسري نفس المنطق بالنسبة للمصائب " ولنبلولنكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " [ البقرة \ 155ـ157 ]. حتى المصيبة في الرؤية القرآنية مرحلة من الدعوة.
سادساً: ثم ان الدعوة الشاملة لجميع البشر: " ولكل قوم هاد " ] الرعد\7[. والقرآن يؤكد خلال آيات متعددة وجود الدعوة بواسطة الانبياء لجميع شعوب الارض وبالتالي يثبت ان دعوة الله للانسان عامة بواسطة الانبياء ومستمرة بواسطة الهادين " الائمة " والاوصياء.
هذا الاستمرار والشمول في الدعوة الالهية هو عناية من الله لانقاذ الانسان من سيطرة الاهواء وعناصر الشر في داخله وفي الخارج، والتي تظهر خلال دعوة الانبياء وبعدهم، وتتراكم حتى تصبح خطرا على الدعوة ذاتها ومن هنا يبدأ دور الامام لمنع تحول المفاهيم والاحكام الالهية عن طريق عناصر واناس يشوهون الفكرة ويحرفون الكلام عن مواضعه.
فالامام عند الشيعة له دور حفظ الدعوة والقيادة عدا انه ليس نبيا ولا يوحى اليه، ولكنه معصوم عن الخطأ والذنب. ومعنى ذلك ان الامام المعصوم طبعا لا الامام في مصطلحنا المعاصر ـ يمثل الارادة الالهية في سير الانسان نحو الكمال. ومن اجل ذلك يقول الشيعة ان تولية الامام يجب ان تكون حسب النص وليس حسبالانتخاب والاختيار. فالامام يمثل الارادة الالهية اي مساعدة الانسان في صعوده نحو الكمال وهو يصطدم بعراقيل وعقبات. والصدام خفيف تارة وعنيف اخرى وطالما ان الامام يمثل هذه الارادة يتضح معنى الحديث " اكثر الناس بلاء الانبياء ثم الاوصياء " باعتبار مسؤوليتهم عن دعوتهم المستمرة. ونعرف معنى الحديث " من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة الجاهلية " لمواجهة خطر الانحراف وسيطرة الشر.
هذه الاستمرارية في القيادة ومساعدة الناس على صراعهم الداخلي والخارجي ودفعهم نحو الكمال تعبير صادق عن سنة الله في الخلق " ولن تجد لسنة الله تبديـلا " [الاحزاب / 62[. فالتغير والتطور والتكامل هنا يلتقي مع الثبات والاطلاق ويصبح امرا لا يتغير في الاساس، متغيرا في المضمون . فالسنة الازلية المطلقة تتطلب التغير الدائم، هنا يلتقي التغيير والثبات.
1 ـ العلاقة بين الشهادة والامامة:
ان النبي، كل نبي، ومن بعده الامام الوصي، ومع الامام ممثلوه كما ورد في الحديث " من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه عاصيا لهواه مطيعا لامر مولاه " ـ اصحاب هذه الصفات، الامام يعبر عنهم فيقول ـ: " فانه حجتي عليكم وانا حجة الله عليكم ". وهؤلاء القادة: النبي، الامام وممثل الامام، مسؤولون امام الله عن سلوك الناس واستمرار تحركهم نحو الكمال مهما كان الثمن، وكيفما كانت الظروف حتى لو استلزم ذلك التضحيات، اي " الشهادة ". فالامام مسؤول عن تقديم الشهادة وان يتقدم لاجل الشهادة عند الاقتضاء حتى يصون سير الانسان نحو الكمال الذي يصطدم بعراقيل وعقبات خفيفة احيانا وعنيفة اخرى.
ومن هنا فان مفكري الشيعة ـ او على الاقل بعض مفكري الشيعة ـ يميلون الى رفض تصنيف التشيع مذهبا في الاصل منفصلا عن المذاهب الاخرى. المفكرون يرفضون ذلك بل انهم يقولون ان التشيع بمعنى المسؤولية هو ايدولوجية القادة وسلوكهم القيادي المعتمد على الاجتهاد والجهاد وهو الدرس الصحيح للمرحلة المعاشة والسعي حتى الشهادة في سبيل تحويلها الى الافضل.
وهنا نصل الى التلاقي العميق بين الامامة والشهادة لان الامامة مسؤولية لصيانة تحرك الناس، ومن الطبيعي ان المسؤول قد يحتاج الى درجة الشهادة. فالشهادة جزء من الامامة. وندرك مفهوم الحديث الوارد عن الائمة " ما منا الا شهيد او مسموم "، حيث يلقي الاضواء على ابعاد النضال الذي كانوا يمارسونه لتحمل مسؤولياتهم. وهنا نصل الى الخط العريض لتاريخ التشيع الذي تشكل عاشوراء صفحة بارزة منه.. ذلك الخط الشاق المأساوي الذي جعله رغم قلة اصحابه، مذهب الرفض ام المخالفة ام المعارضة في اطار الالتزام الاسلامي بالنصوص والمتجدد بالاجتهاد.
2 ـ الرسالة... حلقات شهادة:
ان رسالة الدين واحدة في سلسلة واحدة متصلة الحلقات. والهدف لا يتحقق الا بتحرير الانسان من عبادة الذات ومن التأثر بنزعات الشر ومن عبادة ما حوله ومن حوله.ان التحرر من عبادة الذات يحصل خلال الصراع النفسي وهو امر ذاتي يخصنا رغم انه يكلف جهدا كبيرا وقد عبر عنه الرسول بـ " الجهاد الاكبر " ولكن عندما يصل الانسان الى التحرر من عبادة آلهة الارض ورفض عبادة من حوله، يعني تحرير الانسان من عبادة الناس والاصنام - الهة الارض الذين يستعبدونه ويستضعفونه - عندما يصل الامر الى التحرر من الطغاة، يصطدم بمصالح هؤلاء وتحتدم المعركة.
وهنا نجد ان جهاد الانبياء والائمة والاوصياء جميعا في ساحة واحدة، بحيث يمكننا ان ندرس موقف كل منهم في اطار عام. ومن جملة هذه المجاهدات بل قمة هذه التضحيات استشهاد الامام الحسين يوم عاشوراء. فليست الشهادة الحسينية حلقة معزولة عن الحلقات الاخرى، بل ندرسها من خلال تاريخ نضالي طويل اوجد شهادة الحسين. كما ان شهادة الحسين اوجدت شهادات اخرى، ولكن شهادة الحسين هي القمة. ولذلك فالروايات الشيعية في الزيارات تؤكد وتقول: السلام عليك يا وارث ادم صفوة الله ( يربط بين الحسين وبين ادم ) السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث ابراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث اسماعيل ذبيح الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله، السلام عليك... وهكذا...
هذه الاحاديث تركز، على ربط الحركة الحسينية بالحركات القيادية لتحرير الانسان من عبادة آلهة الارض، ودوره في انه يحمل اعباء التاريخ كلها ضمن معارك جرت منذ الاول في وجه الطغاة ولخدمة المعذبين في الارض منذ ان كانت الارض. وهذه المعارك استمرت وسقط شهيد تلو شهيد في الطريق حتى جاء الحسين وهو سيد الشهداء، فهو حلقة مترابطة مع هذا الماضي. وبنفس الوقت هذا يعني ان حركته نابعة من حركتهم وهي بدورها ام الحركات، والحسين بدوره " ابو الشهداء ".
ان آلهة الارض " الطغاة " في المصطلح الديني هم آلهة المال وآلهة القوة وآلهة الاغراء والهة الجاه والطغيان والظلم. إن هذه الآلهة وزبانيتها تقوم باستعباد الانسان او على حد تعبير القرآن " استضعاف الانسان ". طبعا كلمة الاستضعاف في القرآن كلمة شاملة، تعني اعتبار انسان لاخيه الانسان ضعيفا لكي يأخذ منه ماله وهذا استثمار في مصطلحنا المعاصر، او ليأخذ منه حريته، وهذا نسميه الاستعمار، او يأخذ منه عقله وفي مصطلحنا هو التسلط والاغراء والارهاب والتضليل. فالاستضعاف ان هو في الاستشمار والاستعمار والتسلط والاغراء والارهاب والتضليل، وجميع العناصر التي تسلب الانسان سلوكه الصحيح وحريته المسؤولة. ومن الطبيعي ان هذه الآلهة لا تترك الساحة دون جهد فتصتدم مع رسالة الدين المتجسدة في دعوة الانبياء والائمة، ويحصل الصراع وتراق الدماء وتمتلىء السجون ويضطهد المستضعفون في الارض.
ثم تبدأ المرحلة الثانية التي تسمى بمرحلة " التأويل ". ذلك لانه عندما ينتصر نبي في المعركة، سرعان ما يغير الطغاة ادوارهم فيلبسون ملابس الدين ويقوون سلطانهم باحكام الدين وطقوس الدين، فيأخذون صدور المجالس ومراكز المعابد. ويعود الخطر ويبقى المعذبون في الارض تحت الاعباء الجديدة التي اكتسبت لون القداسة من خلال المؤسسات الدينية ورجال الدين ايضا الذين يساعدون هؤلاء الطغاة ـ آلهة المال والجاه والطغيان ـ المستضعفون يتألمون وتستمر المأساة ويعود الصراع بقيام نبي او وصي وتراق الدماء وتمتلىء السجون وتسقط الضحايا وهكذا...
3 ـ الحسين... ثائراً:
والحسين الذي عاش الرسالة الاسلامية، وشاهد جهود محمد وعلي واصحاب محمد، شاهد جهودهم في سبيل تحرير الانسان من قيوده ودفعه الرائد نحو الكمال. الحسين عاصر تحطيم الاصنام في الكعبة. وعاصر تحطيم الاصنام في المجتمع وسقوط الشاهنشاهية الفارسية، والقيصرية الرومانية، والتمييزات الطبقية القريشية، وتحرير الانسان اليمني والحبشي. وعاصر ولادة المجتمع الجديد، مجتمع الاخوة الذي اسسه محمد على اسس العدل والكرامة الانسانية والقيم. الحسين هذا الذي عاصر تلك المعارك فشاهد النتائج وميز الصفوف فوجد انصار الحق مقابل انصار الباطل، يرجع البصر كرة اخرى فيرى ان كل شيء قد تغير، ويرى ان الذين كانوا يحاربون الحق في الامس القريب ويستضعفون الناس باساليب طاغية اصبحوا حماة الدين الجديد وادعياء حماية هذا الدين، فيحكمون من خلال المنابر والمساجد فيقول متألما: " اصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا الا ترون ان الحق لا يعمل به وان الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا ".
الحسين يشاهد ان على منبر الرسول ومن خلال مركز القيادة الجديدة، مركز تحصين الانسان وانقاذ الانسان، يتحكم ساسة الارهاب والتجويع في العالم الاسلامي عدا جيوش الحاكم - المرتزقة ( راجعوا شرح نهج البلاغة - المجلد الثاني، والطبري - المجلد السادس والاستيعاب وابن الاثير والمسعودي ) لكي تعلموا اخبار العصابات التي كانت تكلف من قبل الخليفة لكي تغيرعلى اطراف العالم الاسلامي، عصابات السلب والقتل وابادة ارزاق الناس ومنع الناس عطاياهم واجورهم ونهب بيت المال.
والى جانب ذلك، سيف المستضعفين، اي سيف محمد، وصل الى يد الطاغين من جديد. فيستضعفون بسيف محمد من جديد وهذا هو الخطر الدامي الامَّر.
ثم يشاهد الحسين ان سياسة التفرقة بين القبائل وتشتيت الامة والتفرقة بين الشعوب وبين العناصر تتحكم في المجتمع ـ لاحظوا كتاب الصفين لنصر بن مزاحم، والطبري وتاريخ الاسلام السياسي، لكي تشاهدوا كيفية خلق الفتن بين اليمني والقيسي، وبين فئات من اليمنيين، وبين العراق والشام، والحجاز والشام، واليمامة واليمن، وداخل القبائل كيف كانت تمارس سياسة التفرقة ـ.
ثم يشاهد الحسين ايضا تزوير الاحاديث فهناك اناس ممتهنون، يأخذون رواتب لكي يزوروا الاحاديث، وينقلوا الروايات في فضل القبائل ( راجعوا شرح النهج ايضا وقد جمع ذلك احمد امين في كتاب نهج الاسلام ) حتى اصبح في الاحاديث مدرسة باسم مدرسة معاوية في الاحاديث ـ. ثم يشاهد الحسين ان المحنة ـ محنة المستضعفين ـ اصبحت اكثر خطورة، لانه تكونت ايديولوجيات خطرة لاستمرار المعذبين في تحمل الاعباء والصبر، فتكونت فرقة " المرجئة ". و " المرجئة " كما يقرها ابن حزم في الفصل تعتمد على هذه القاعدة: " لا تضر مع الايمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. فاذا كان الانسان مؤمنا بقلبه كفى ذلك، مهما ارتكب من الظلم فلا يضره شيئا ". هذه الفلسفة تكونت لخدمة الطغاة الذين كانوا يتحكمون باسم الاسلام. كما ان " الجبرية " انتشرت في هذا الوقت بالذات وتركت الامور للتقادير وسلب الانسان ارادته: ارهاب في الحياة الفكرية، تجويع، والاغلال تعممت. وبالتالي يشاهد الحسين نتيجة هذه الامور في قتل الابرياء وترحيل القبائل ـ وان حصة لبنان من قضية ترحيل القبائل حصة وافرة لان كثيراً من القبائل الذين انتقلوا ورحلوا الى لبنان كانوا من القبائل الشيعية في العراق ـ ونفي الصحابة التابعين وتسفيرهم نتيجة ذلك.
يشاهد تحولا عميقا في مفاهيم الجيش، فالجيش كان جيشا رساليا فصار جيشا مرتزقا. وفي مفهوم بيت المال، الذي كان للامة فصار لمصلحة الطاغين.
وشاهد الفرق في الحكم، في مفهوم الحكم الذي هو اعطاء حكم الله لا تنفيذ رغبة الناس، والتغيير في الشعائر الدينية، المسجد المتواضع والصلاة البسيطة اصبحت ضخمة في الشكل، يهتمون بشكلها وابنيتها كما يقول الرسول " مساجدهم عامرة بالبناء خراب من الهدى ".
وتغير في البيعة، فالبيعة التي كانت تعبر عن رضى الناس، واختيار الناس. وتصويت الناس، اصبحت مفروضة تؤخذ مسبقا وبالاغراء والتهديد.
يشاهد الحسين هذه القواعد وتلك النتائج في جانب الحاكم، ثم يشاهد من جهة اخرى ان الامة تنظر كالنعاج الى هذه الاوضاع دون اعتراض، وان اليأس واللامسؤولية والخوف والطمع عوامل مسيطرة على الناس.
4 ـ الحسين شهيدا:
وهو الحسين، مسؤول عن سلامة تحرك الناس، هو المسؤول لانه الامام، ولكنه لا يملك جيشا ولا قوة، فاختار ان يحول نفسه الى سلاح الميزان " الا ترون ان الحق لا يعمل به وأن والباطل لا يتناهى عنه فليرغب المؤمن الى لقاء ربه محقا ". فخرج مع اولاده واهل بيته واصحابه وعائلته " والله ما خرجت اشرا ولا بطرا انما اريد الاصلاح في امة جدي ما استطعت ". ويقف لكي تتحقق المأساة بافظع صورها فتكشف خصومه وتعزلهم عن ادعائهم تمثيل المفاهيم الدينية، وتؤكد للناس ان هؤلاء الحكام ليسوا هم القديسون، ولكي تهز ضمائر الامة من جهة اخرى " اذا كان دين محمد لم يستقم الا بقتلي يا سيوف خذيني ". وهكذا كان.
وكانت نتائج الامر كما قدرها الحسين: اعتراض بعد اعتراض وتمرد وثورة. فحركة التوابين جاءت بعد فترة وجيزة من مشهد الحسين وقتله كما يقول الطبري، ثم جاءت ثورة المدينة ثم ثورة المختار بن ابي عبيدة الثقفي في سنة 66 هـ. يعني بعد خمس سنوات اشتعل العالم الاسلامي في كثير من اجزائه في حركات دموية قاسية، وجاء مترف بن مغيرة بن شعبة فثار على الحجاج في سنة 77، وعبد الرحمن بن محمد الاشعث في سنة 81، وزيد بن علي بن الحسين في سنة 121، حتى انتهت الى ثورة بني العباس التي قلعت جذور بني امية. وهنا نلاحظ ان جميع هذه الثورات كانت شعارها: " يا لثارات الحسين ".
وملخص الكلام ان الشهادة مسؤولية اصيلة في القادة وفي الامام الذي هو سيد القادة في المصطلح الاصلي الشرعي. فالمعركة يجب ان تدرس كما هي مدروسة في الحلقات الاحدى عشرة القادمة. معركة رسالية: جزء من الكل، مرتبطة بالماضي، واصلة المستقبل الى الماضي، طبيعية وناجحة. وهكذا نجد الترابط الواضح بين كلمة الامام في مفهومه الاصيل وبين كلمة الشهادة التي يعبر عنه عنوان محاضرتنا بعاشوراء ونصل الى ان الذين يريدون ان يسلكوا هذا السبيل عليهم الاستعداد لمثل هذه المسؤوليات وتحملها وأن في ذلك أضواء على الابعاد التفصيلية الموضوعية التي سنشاهدها.
5 ـ استمرار عاشوراء:
واستمرار عاشوراء في التاريخ كما قلنا، لكي يبعد الموضوع عن كونه حدثا تاريخيا ننظر إليه كقصة في التاريخ، بل انه المتجدد مع كل سنة.
واختيار صورها امر وطني، بشري، فني، فقد عبر عن عاشوراء بتعابير مختلفة فمن معبر بالشعر أو بالنثر او بالكلمة او بالاحتفالات أو بالمسرحيات أو بصور اخرى متكاملة. فالغاية ابقاء اللوحة في وجه الانسان لمساعدته في صراعه مع الشر ولكي يتجسد ويفهم ما يقوله النبي عن الحسين في كلمتين:
الكلمة الاولى: انه يعبر بأنه مصباح الهدى، المصباح الذي ينير الطريق للهداية. ويقول ثانيا: " حسين مني وانا من حسين ". فالحسين منه امر واضح لانه ابنه، اما هو من الحسين فهنا يأتي دور عاشوراء في التاريخ لان الاسلام الذي جاء لتحرير الانسان أصبح من جديد اغلالا في ايدي الناس المستغلين، فولد الاسلام في شكله الحقيقي المتحرر والمحرر للمستضعفين في اطار القيادة على يد الحسين مرة اخرى ولذلك يقول النبي: " انا من حسين ".