مع حصول الحكومة على الثقة النيابية ومباشرتها مهامها رسمياً، تكون معالم المرحلة الجديدة قد اكتملت، على أساس الفرز الجديد والتحول الحاصل في المواقع والأدوار بين 14آذار المنتقلة الى المعارضة و8 آذار المنتقلة الى نعيم السلطة الجديدة.
وأغلب الظن، أن الغبار الكثيف الذي أثارته قوى 14 آذار داخل مجلس النواب في وجه الرئيس نجيب ميقاتي وحكومته سيتبدد سريعا، على قاعدة «غدا يوم آخر». ولن يطول الوقت قبل أن تكتشف المعارضة الجديدة أن أطنان الكلمات، على مدى ثلاثة أيام من المناقشات، ستحفظ كلها في أرشيف المجلس، ولن يكون لها الكثير من الأثر في المعادلات العملية.
أما بيان البريستول الشهير الذي رفع السقف الى حيث بات يصعب على بُناته أنفسهم أن يطالوه، فسيظل دليلا قاطعا ـ لا ظرفيا ـ على تسرع فريق 14 آذار، وربما خفته أيضا، في رسم استراتيجة المواجهة مع خصمه، بعدما جرفه موج الرغبات والامنيات بعيدا عن شاطئ الواقعية، علما انه يضم في صفوفه أصحاب خبرة في المعارك السياسية، وكان يفترض بهم تصويب البوصلة، بدلا من حرق معظم الاوراق في بداية اللعبة.
ولئن كان بيان البريستول قد أمهل ميقاتي حتى صباح الثلاثاء الماضي كي يعلن التزامه الصريح بالقرار 1757 الخاص بالمحكمة وكل مندرجاته، تحت طائلة تأليب الحكومات العربية والمجتمع الدولي عليه، إلا أن ما حصل بعد ذلك أظهر ان فعالية بيان البريستول لم تتعد حدود القاعة التي عقد فيها الاجتماع، ذلك أن ميقاتي المعروف ببرودة أعصابه لم يرف له جفن، فيما بدا أن الرسالة لم تصل لا الى الدول العربية ولا الى الدول الغربية التي صار سفراء عدد منها يبدون إعجابهم بميقاتي وأدائه سراً وعلناً.
وكان لافتا للانتباه في هذا السياق أن وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل الذي يمثل الدولة العربية الحاضنة لفريق 14 آذار وعلى رأسه تيار المستقبل، أبدى مؤخرا حرصه على الاستقرار في لبنان والابتعاد عن التصعيد، ولم يعط أي إشارة الى الرغبة في معاودة الانغماس مباشرة في مستنقع الساحة اللبنانية بعد تجربة الـ«سين ـ سين» غير المشجعة، بل انه أكد ان بلاده رفعت يدها عن لبنان، احتجاجا على مناورات الآخرين، وفق تفسيره الشخصي للأحداث.
وهناك من يقول - في معرض الاشارة الى الأفق المسدود لبيان البريستول - ان تحذيرات أميركية وأوروبية من مغبة استخدام الشارع في المعركة ضد حكومة ميقاتي قد وصلت الى المعنيين في 14 آذار، ليس حباً بالسلم الاهلي والاستقرار الداخلي طبعا، بل خوفا من ان تؤدي الفوضى أو المواجهة في الشارع الى انكشاف الوضع الامني وتعديل قواعد اللعبة، وبالتالي تعريض أمن «اليونيفيل» التي تحميها توازنات دقيقة للخطر.
وبحسب المعلومات المتوافرة لدى أوساط لبنانية واسعة الاطلاع، فإن فريقا فاعلا في 14 آذار كان قد بدأ بإعداد العدة والعديد، وتأمين الجهوزية المطلوبة، لتحريك الارض ضد الحكومة في التوقيت المناسب قد أعاد النظر في حساباته، وهو بادر الى تعليق العمل بالخطط التي وُضعت لهذا الغرض وطلب من مناصريه العودة الى «قواعدهم الجردية» حتى إشعار آخر.
وفي كل حال، يؤكد مصدر قيادي في الاكثرية الجديدة أن الشارع لن يُسقط حكومة ميقاتي لا الآن ولا بعد حين، وان أي رهان من هذا النوع هو خاسر سلفا، مشيرا الى ان قوى 14آذار نفسها عطلت جدوى هذا الخيار عندما تجاهلت في السابق التجمعات الجماهيرية الحاشدة التي كانت تنادي بإسقاط الحكومة البتراء للرئيس فؤاد السنيورة، وبالتالي فإن هذا الفريق الذي كان يظن انه باق في الحكم الى ما لا نهاية، أصيب فجأة بدوار التداول في السلطة واكتشف بين ليلة وضحاها أنه أصبح في المعارضة وان الشارع هو إحدى أدواتها الديموقراطية، ولكن ما فاته أن المعاملة بالمثل وان آخرين غير فؤاد السنيورة يمكن ألا يرف لهم جفن.
وإذا كانت المعارضة الجديدة قد أمطرت ميقاتي منذ تكليفه وصولا الى جلسات الثقة بصليات من «الكاتيوشا» السياسية المزودة برؤوس «وجدانية» و«مذهبية»، سعيا الى استنساخ تجربة الرئيس عمر كرامي الذي استقال تحت التأثير العاطفي في مجلس النواب، إلا ان المعطيات الحسية بيّنت حتى الآن أن صدى هذه الحملات على ميقاتي في الساحة السنية لم يكن على قدر طموح منظميها، بل ان المبالغة المفرطة في الهجوم الذي تعرض له رئيس الحكومة أعطت مفعولا عكسيا وأنتجت نوعا من التعاطف معه، ضمن طائفته، لا سيما أن مظلوميته بدت واضحة وضوحاً جلياً، من خلال العوامل الآتية:
ـ بكّرت المعارضة في استهدافه، قبل أن يبدأ بممارسة الحكم وارتكاب الأخطاء، معتمدة على محاكمة النيات لا الأفعال، ما أفقدها جزءا كبيرا من مصداقيتها ومن التفاعل الشعبي معها، ولعل امتناع «الجماعة الإسلامية» عن التصويت على الثقة يعطي مؤشرا واضحا الى طبيعة المزاج السائد في الوسط السني، في هذه المرحلة، ناهيك عن أن رئيس الحكومة يرمز أصلا الى كتلة سنية وزارية وازنة تضم الى جانبه الوزراء محمد الصفدي وفيصل كرامي وأحمد كرامي.
ـ تحظى شخصية ميقاتي بقبول لدى الرأي العام اللبناني عموما، والسني خصوصا، وهو المعروف عنه بأنه صاحب حيثية سياسية وشعبية قائمة بذاتها، الى جانب كونه رجلا مؤمنا وصاحب مؤسسات إنسانية ومشاريع حيوية، ما جعل الاتهامات الموجهة اليه تفتقر الى الجاذبية وقوة الإقناع.
ولعل الأغرب في كل ما يجري أن عددا لا بأس به من المنتمين الى 14 آذار ممن يهاجمون الحكومة بشراسة ويعتبرون أنها حكومة الانقلاب المذيلة بتوقيع «حزب الله»، لا يترددون هم أنفسهم - وبعضهم مصنف ضمن خانة الصقور - في الاتصال ببعض الوزراء بغية الحصول على خدمات وتأمين احتياجات لناخبيهم ومناطقهم، ما دفع وزيراً الى التساؤل باستغراب: كيف يصح أن يتقدم هؤلاء بهذه الطلبات من حكومة القتلة، كما يسمونها؟