مقدّمة
بعد أن استقرّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) في المدينة، بدأ يخطِّط عسكرياً لضرب رأس المال الذي كانت قريش تعتمد عليه اعتماداً مباشراً في تجارتها.
ولتحقيق هذا الهدف خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومعه أصحابه للسيطرة على القافلة التجارية التي كان يقودها أبو سفيان، فعلم أبو سفيان بخُطّة المسلمين فغيّر طريقه، وأرسل إلى مكّة يطلب النجدة من قريش، فخرجت قريش لقتال رسول الله(صلى الله عليه وآله).
تاريخ المعركة ومكانها
17 شهر رمضان 2ﻫ، منطقة بدر، وبدر اسم بئر كانت لرجل يدعى بدراً، تبعد (160) كيلو متراً عن المدينة المنوّرة.
عدد الجيش
خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ومعهم سبعون بعيراً، وفرسان أحدهما للزبير بن عوام والآخر للمقداد بن الأسود.
وخرجت قريش في تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ومعهم سبعمائة بعير، ومائتي فرس.
استشارة الصحابة
استشار رسول الله(صلى الله عليه وآله) أصحابه في طلب قافلة أبي سفيان ومحاربة قريش، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، إنّها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلّت منذ عزّت، ولم نخرج على هيئة الحرب، فقال(صلى الله عليه وآله): «اجلس»، فجلس.
ثمّ قام عمر بن الخطّاب فقال مثل ذلك، فقال(صلى الله عليه وآله): «اجلس»، فجلس.
ثمّ قام المقداد فقال: يا رسول الله، إنّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك والله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: )فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(، ولكنّا نقول: امض لأمر ربّك فإنّا معك مقاتلون، فجزاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) خيراً على قوله ذاك.
وقام سعد بن معاذ ـ وهو من الأنصار ـ فقال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، إنّا قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله، فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا ان نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعلّ الله عزّ وجلّ أن يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله.
ففرح بذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال: «سيروا على بركة الله، فإنّ الله عزّ وجلّ قد وعدني إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله وعده، والله كأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وفلان وفلان»(1).
سلام الملائكة على الإمام علي(عليه السلام)
قال الإمام علي(عليه السلام): «لمّا كانت ليلة بدر، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): من يستقي لنا من الماء؟ فأحجم الناس، قال: فقمت فاحتضنت قربة، ثمّ أتيت قليباً بعيد القعر مظلماً، فانحدرت فيه، فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل تأهبّوا لنصرة محمّد(صلى الله عليه وآله) وحزبه، فهبطوا من السماء لهم دوي يذهل من يسمعه، فلمّا حاذوا القليب وقفوا وسلّموا عليّ من عند آخرهم، إكراماً وتبجيلاً وتعظيماً»(2).
وعن محمّد بن الحنفية قال: بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) علياً في غزوة بدر أن يأتيه بالماء، حين سكت أصحابه عن إيراده، فلمّا أتى القليب وملأ القربة وأخرجها، جاءت ريح فهراقته، ثمّ عاد إلى القليب فملأها، فجاءت ريح فهراقته، وهكذا في الثالثة، فلمّا كانت الرابعة ملاها فأتى بها النبي(صلى الله عليه وآله) وأخبره بخبره.
فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أمّا الريح الأُولى فجبرائيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك، والريح الثانية ميكائيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك، والريح الثالثة إسرافيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك»(3).
قال السيّد الحميري بهذه المناسبة:
وسلّم جبريل وميكال ليلة ** عليه وحيّاه إسرافيل معربا
أحاطوا به في روعة جاء يستقي ** وكان على ألف بها قد تحزّبا
ثلاثة آلاف ملائك سلّموا ** عليه فأدناهم وحيّا ورحّبا(4).
وقال أيضاً:
ذاك الذي سلّم في ليلة ** عليه ميكال وجبريل
ميكال في ألف وجبريل في ** ألف ويتلوهم سرافيل
ليلة بدر مدداً أنزلوا ** كأنّهم طير أبابيل
فسلّموا لمّا أتوا حذوه ** وذاك إعظام وتبجيل(5).
العناية الإلهية
قد تجلّت العناية الإلهية بالنبي(صلى الله عليه وآله) وأصحابه منذ ليلة المعركة، إذ بعث الله المطر الغزير، والمسلمون يغشاهم النعاس.
وأرسل النبي(صلى الله عليه وآله) عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود سِرّاً لاستطلاع أحوال جيش العدو، فَطَافا في معسكرهم، ثمّ رَجعا فأخبَرا بأنّهم مذعورون فزعون، وذلك قوله تعالى: )إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ((6).
بدء المعركة
لمّا أصبح رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم بدر، عبّأ أصحابه ودفع(صلى الله عليه وآله) الراية إلى الإمام علي(عليه السلام)، ولواء المهاجرين إلى مصعب بن عمير، ولواء الخزرج إلى الحبّاب بن المنذر، ولواء الأوس إلى سعد بن معاذ، وقال(صلى الله عليه وآله): «اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللّهمّ إنْ تُهلِكَ هَذه العصَابَة لا تُعبَد في الأرض»(7).
وخرج عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة والوليد بن شيبة، إلى ساحة المعركة وقال: يا محمّد، أخرج إلينا أكفّاءنا من قريش، فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم، فقالوا: ارجعوا إنّما نريد الأكفّاء من قريش، فنظر رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب ـ وكان له يومئذٍ سبعون سنة ـ فقال: «قم يا عبيدة»، ونظر إلى حمزة فقال: «قم يا عمّ»، ثمّ نظر إلى الإمام علي(عليه السلام) فقال: «قم يا علي ـ وكان أصغر القوم ـ فاطلبوا بحقّكم الذي جعله الله لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور الله، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره».
ثمّ قال: «يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة»، وقال لحمزة: «عليك بشيبة»، وقال لعلي(عليه السلام): «عليك بالوليد».
فمروا حتّى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفّاء كرام، فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنّها فسقطا جميعاً، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتّى انثلما.
وحمل الإمام علي(عليه السلام) على الوليد فضربه على حبل عاتقه، فأخرج السيف من إبطه، قال(عليه السلام): «لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها هامتي، فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض»، ثمّ ضربه(عليه السلام) ضربةً أُخرى فقتله.
ثمّ اعتنقا حمزة وشيبة، فقال المسلمون: يا علي أما ترى أنّ الكلب قد نهز عمّك؟ فحمل عليه الإمام علي(عليه السلام) ثمّ قال: «يا عم طأطأ رأسك»، وكان حمزة أطول من شيبة، فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه علي(عليه السلام) فطرح نصفه، ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق، فأجهز عليه(.
وبرز حنظلة بن أبي سفيان إلى علي(عليه السلام)، فلمّا دنا منه ضربه علي(عليه السلام) ضربة بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض، وأقبل العاص بن سعيد بن العاص يبحث للقتال، فلقيه(عليه السلام) فقتله.
لا سيف إلّا ذو الفقار
قال الإمام الباقر(عليه السلام): «نادى مُنادٍ في السماء يوم بدر يقال له رضوان: لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي»(9).
وفي رواية أُخرى عن ابن عباس: كان لرسول الله(صلى الله عليه وآله) سيف محلّى، قائمه من فضّة، ونعله من فضّة، وفيه حلق من فضّة، وكان يسمّى ذا الفقار(10).
تخيير الصحابة
أُسر من قريش في معركة بدر سبعين رجلاً، فاستشار رسول الله(صلى الله عليه وآله) أصحابه فيهم، فغلظ عليهم عمر غلظة شديدة، فقال: يا رسول الله أطعني فيما أشير به عليك! قدّم عمّك العباس واضرب عنقه بيدك، وقدّم عقيلاً إلى أخيه علي يضرب عنقه، وقدّم كلّ أسير إلى أقرب الناس إليه يقتله. فكره رسول الله(صلى الله عليه وآله) ذلك ولم يعجبه، كأنّه كره تسليم كلّ أسير إلى الأقرب إليه لما فيه من الجفاء.
ورغب المسلمون في فداء الأسرى دون قتلهم؛ ليتقوّوا بالمال، فقبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) الفداء أكثره أربعة آلاف درهم وأقله ألف، وأطلق رسول الله(صلى الله عليه وآله) جماعة بغير فداء، فنزلت الآية الكريمة: )مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتّقُواْ اللهَ إِنّ اللهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ((11)،(12).
وعن الإمام علي(عليه السلام): «إنّ جبرائيل(عليه السلام) هبط على النبي(صلى الله عليه وآله)، فقال له: خيّرهم ـ يعني أصحابه ـ في الأسرى، إن شاؤوا القتل، وإن شاؤوا الفداء، على أن يقتل العام المقبل منهم عدّتهم، قالوا: الفداء، ويقتل منّا عدّتهم»(13).
فأُسر يومئذٍ العباس بن عبد المطّلب، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن المطّلب، وحليف لبني هاشم اسمه عقبة بن عمرو، فلمّا أمسى القوم والأسرى محبوسون في الوثاق، بات رسول الله(صلى الله عليه وآله) تلك الليلة ساهراً، فقال له أصحابه: ما لك لا تنام يا رسول الله؟ قال: «سمعت أنين العباس من وثاقه»، فقاموا إليه فأطلقوه فنام رسول الله(صلى الله عليه وآله)(14).
ولمّا قدم بالأسرى إلى المدينة، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) للعباس: «افدِ نفسك يا عباس، وابني أخويك عقيلاً ونوفلاً، وحليفك عتبة بن عمرو، وأخي بني حارث بن فهر، فإنّك ذو مال»، فقال: يا رسول الله، إنّي كنت مسلماً، وإنّ القوم استكرهوني، فقال(صلى الله عليه وآله): «الله أعلم بإسلامك، إن يكن حقّاً فإنّ الله يجزيك به، فأمّا ظاهر أمرك فقد كان علينا»(15)، ثمّ فدى نفسه وابني أخويه وحليفه.
شهداء بدر
استشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً، من المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن عبد المطلّب، وذو الشمالين عمرو بن نضلة حليف بني زهرة، ومهجع مولى عمر، وعمير بن أبي وقّاص، وصفوان بن أبي البيضاء.
ومن الأنصار: عاقل بن أبي البكير، وسعد بن خيثمّة، ومبشر بن المنذر، وحارثة بن سراقة، وعوذ ومعوذ أبنا عفراء، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلى، ويزيد بن الحارث بن فسحم.
قتلى المشركين
قُتل من المشركين في معركة بدر اثنان وخمسون رجلاً، قتل الإمام علي(عليه السلام) منهم مع الذين شرك في قتلهم أربعة وعشرين رجلاً.
وأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالقتلى، فطُرحوا كلّهم في قليب بدر، وكأنّه فعل ذلك لئلاّ تتأذّى الناس بروائحهم، إلّا أُميّة بن خلف، كان قد انتفخ وتزايل لحمه فترك، والقوا عليه التراب والحجارة.
ثمّ وقف(صلى الله عليه وآله) على أهل القليب، فناداهم رجلاً رجلاً: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أُميّة بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقاً فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقاً، بئس القوم كنتم لنبيّكم، كذبتموني وصدّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس».
فقالوا: يا رسول الله، أتنادي قوماً قد ماتوا؟ فقال: «لقد علموا إنّ ما وعدهم ربّهم حقّ»(16).
قال حسّان بن ثابت بهذه المناسبة:
يناديهم رسول الله لمّا ** قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا حديثي كان حقّاً ** وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا ** صدقت وكنت ذا رأي مصيب(17).
وهكذا حقّق الله عزّ وجلّ النصر للمسلمين، واندحرت قريش وتشتّت جيشها، وفقدت هيبتها وسُمعتها، كما تحقّقت للمسلمين في هذه المعركة مكاسب مالية وعسكرية وعقائدية وإعلامية، ساهمت في خدمة الإسلام وتثبيت أركانه، وأوجدت منعطفاً كبيراً في مجمل الأحداث في الجزيرة العربية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1. تفسير مجمع البيان 4/433.
2. شرح إحقاق الحق 6/91.
3. مناقب آل أبي طالب 2/80.
4. مدينة المعاجز 1/94.
5. الأمالي للطوسي: 199.
6. الأنفال: 11ـ12.
7. تفسير مجمع البيان 4/437.
8. المصدر السابق 4/440.
9. تاريخ مدينة دمشق 42/71.
10. بحار الأنوار 16/127، الجامع الصغير 2/356.
11. الأنفال 67ـ69.
12. أعيان الشيعة 1/250.
13. صحيح ابن حبّان 11/118، موارد الظمآن 5/312.
14. شرح نهج البلاغة 14/182.
15. إعلام الورى بأعلام الهدى 1/169.
16. شرح نهج البلاغة 14/178.
17. البداية والنهاية 3/359.
بقلم : محمد أمين نجف