حركة المحرومين
(الولادة، ظروف النشأة، والابعاد)
القسم الخامس: حركة المحرومين ـ ثورة مؤمنة انسانية
في الابحاث السابقة لاحظنا:
اولاً: الاوضاع الاجتماعية والسياسية ومختلف الشؤون الحياتية التي كانت سائدة في لبنان منذ 1860، حتى الان.
ثانياً: وضع الطائفة الاسلامية الشيعية اجتماعيا وسياسيا وحياتيا.
ثالثاً:الفكر الشيعي المقتبس من التراث ومن صميم المبادىء الايمانية والمواقف التاريخية للقادة.
وبنتيجة هذه الابحاث اكتشفنا ان حركة المحرومين في لبنان، تملك كافة معالم ثورة مؤمنة انسانية لا طائفية، رغم انها حركة انطلقت من صميم ابناء الطائفة الشيعية وبمشاركة قيادتها الروحية المسؤولة.
وذلك لان الثورة الحقة، في مفهومها العام الصحيح هي حركة تقدمية عادلة ترفض الوضع السائد في المجتمع الظالم المتخلف وتملك ايدولوجية متكاملة.
اما اولئك الذين حصروا الثورة في حركة طبقية، او في فئة معينة، فانما نظروا الى واقع الحركات المعاصرة لهم، فلو عاشوا في فترة اخرى من الزمن لكان لهم رأي آخر.
وقد اخرنا البحث في الشرط الرابع من شروط الثورة، وهو القيادة، الى ما بعد دراسة ابحاث ضرورية لتوضيح معالمها.
بقي هنا بعض النقاط الاساسية في بحثنا هذا.
اولها: ان هذه الحركة " حركة المحرومين " كانت عادلة وباتجاه تقدم الانسان في التاريخ، لمجرد العوامل التي تحدثنا عنها في المادتين الاولى والثانية، ولكن الحركة هذه كانت من مقتضيات الضرورة التاريخية بسبب المزيد من العوامل التي تعتبر على خلاف سير التاريخ.
فالظلم واغتصاب حقوق ابناء الطائفة، ازداد بصورة واضحة خلال السبعينات، وازداد بوجه خاص عدد المحرومين لدى الطوائف الاخرى، وارتفع مستوى الوعي والثقافة لدى المحرومين.
ومن جهة اخرى، فقد زرعت اسرائيل بشكل مجحف وعلى خلاف جميع القواعد المعروفة في قلب هذه المنطقة، وقد نتجت عن هذه الظاهرة نتائج كبيرة وخطيرة ذات ابعاد حضارية وبشرية وثقافية وامنية واقتصادية تعد انتكاسة فريدة في تاريخ المنطقة بل وفي تاريخ العالم.
ان هذه النتائج بمضاعفاتها وتفاعلاتها جعلت مصائر الشعوب مهزوزة، كما سلبت الثقة عن الالتزامات الدولية ووجود وفاعلية الرأي العام العالمي وغيرت المعادلات السياسية والقيم المتداولة بين الشعوب ودول المنطقة.
ومن اخطر نتائج هذه الفاجعة، كانت مسألة تشريد الشعب الفلسطيني، ثم تجاهل حقوق هذا الشعب في وطنه وفي العيش الكريم مدة ربع قرن تقريبا، مما جعل الشعب الفلسطيني يضطر لتحمل مسؤولية عودته الى الوطن وعودة الوطن اليه دون ان يعتبرها امانة في عنق احد او سببا في تحركات المؤسسات الدولية والضمائر الحية في العالم. وكانت المقاومة الفلسطينية.
وجاء بعد ذلك موقف الشعوب والدول العربية والعالم كله امام انتفاضة الشعب الفلسطيني، وما في ذلك من تجارب محزنة وغنية.
وهنا ندرك مدى تأثير هذا العنصر على قيام حركة المحرومين وخياراتها وابعادها، حتى ان ميثاق الحركة اعتبر قضية الشعب الفلسطيني هي في عقلها وقلبها.
ولا بد من اعتبار المحنة اللبنانية، وهي من نتائج وجود اسرائيل، من أهم العوامل المؤثرة في ضرورة انبثاق هذه الحركة وعدالتها ونموها.
وأخيرا فان الحركات الثورية المؤمنة التي انطلقت مؤخرا في اقطار العالم عامة وفي العالمين العربي والاسلامي خاصة، واطلاع اللبنانين جميعا على تاريخها ونتائجها سيما بعد ان فقدت الحركات الماركسية رونقها الثوري والتقدمي والمناقبي، بسبب التطورات العالمية، وبعد ان استلمت هذه الحركات مسؤوليات الحكم في ثلث العالم تقريبا، كما ان تجربة الحركات الثورية المؤمنة، الوطنية التحررية منها او الاجتماعية السياسية مع تنوعها وتطوراتها أحدثت تفاعلات كبرى في نفوس اللبنانين، سيما المحرومين منهم.
وبعد نصف قرن من تجربة الثورات العالمية الماركسية ومشتقاتها العربية تبين بصورة موضوعية ان هذه التجارب لا تتناسب مع ارضنا وتاريخنا ولا تحول انساننا الى ثائر حقيقي بالمعنى الصحيح. ولذلك فانها لم تقدم خلال هذه المدة أية خدمة وطنية سياسية او اجتماعية للناس كما لم تسجل اي موقف حقيقي لمصلحة العرب أمام اسرائيل، ان لم تكن قد ميعت في بعض الاوقات مواقف الاخرين وساهمت بوجه أو باخر في التراجع العربي أمام اسرائيل.
اما موقف هذه الحركات في المحنة الوطنية اللبنانية فأنه بحث، ويبحث خلال التقييم العام للاحداث مرحلة مرحلة.
ثانيها: ان الايديولوجية التي تعتمدها الحركة والتي استلهمت اسسها من التجربة التاريخية تؤكد ان توفر القيادة الصالحة والتنظيم هما عنصرا الاساس في نجاح كل حركة في العالم.
ووجدنا ان درجة المسؤولية لدى القائد تبلغ حد الشهادة، كما شاهدنا دقة التجربة التاريخية في انتقاء القائد حتى تكاد ان تكون القيادة واقعا كونيا وخلقيا وليس انتخابا وتعيينا، كما اننا سوف ندرس بعض مواصفات قيادة الحركة في مرحلة تأسيسها.
اما الآن فاننا نتوحه الى مبدأ التنظيم وضرورته في نجاح الثورة. إن الفرد، كل فرد، يملك من الطاقات والكفاءات درجة محدودة مهما كان عبقريا. والتنظيم ليس اضافة فرد أو افراد الى فرد لان ذلك أيضا لا يخرج الطاقات والكفاءات عن درجتها المحدودة.
ومن الكفاءات والطاقات المحدودة لا يمكن نجاح الثورة، حيث ان طاقات المنتفعين من الوضع الاجتماعي القائم ومصالحهم وامكانياتهم التي تسخر لهم عناصر وطاقات اخرى، تفوق طاقات الافراد مهما كثرت. بالاضافة الى ان تملك زمام الامور والتحالفات القائمة بين المسلطين على الشعوب تجعل المعادلة في الصراع ضد مصلحة الثوار دائما. ان الثورة تحتاج الى طاقات تقلب المعادلات.
ان المطلوب في التنظيم، والتنظيم هو الذي يحول الفرد الى الجماعة، وهو ان يصبح جميع الافراد بمنزلة جسم واحد كبير منتشر في كل مكان، وان تتوزع المسؤوليات على العناصر كما هي موزعة على اعضاء الجسم الواحد: فالعين مثلا لم تستلم مهمة الإبصار بناء على التعيين او الانتخاب او التكليف بل لانه لا يمكن لاي عضو اخر ان يقوم بما تقوم به العين، وهكذا. وهذا هو الوضع في الموجودات الطبيعية الكونية في العالم الواحد.
ولذلك فان المجتمع ـ كبيراً كان ام صغيراً ـ ينسجم وينجح ويخلد في العالم عندما يكون في الترابط وفي تقسييم المسؤوليات مثل الانسان الفرد ومثل الكون الكبير.
ولاشك ان درجة النجاح في انجاح مهمة " التجميع " تعود الى مدى دقة التنظيم كما تعود الى سلامة الهدف.
ان العمل التنظيمي بحق هو ترويض للفرد المنظم بحيث يصبح العضو اداة لا هدفا.
والهدف: هو الغاية التي من أجلها انشيء التنظيم.
وتتفاعل الاداة بالهدف لتكون وحدة منسجمة في حياة العمل التنظيمي.
فانا لا اريد مثلا ان انتصر لنفسي ولمصلحتي على حساب التنظيم بل اريد الانتصار للتنظيم وجعله يتخطى العقبات التي تعترضه.
إن العمل التنظيمي عمل جماعي لا عمل فردي وفيه تذوب الأنا الذاتية في الأنا الجماعية. مثلا، اذا اخذنا العمل الرياضي، فهناك فرق بين ان تكون الرياضة بين بطلين واحد منهم ينتصر على الاخر، وبين ما يسمى بالفريق والفريق الاخر، بالنسبة لفريق كرة السلة او فريق كرة القدم مثلا، فالفريق كله هو الذي ينتصر او ينهزم.
وهكذا لا يستطيع اي فريق رياضي ان يحقق الانتصار الا بعد ذوبان الانا الفردية من قبل العناصر المؤلف منها الفريق والاقتناع بان انتصار الفريق الجماعي هو انتصار فردي بل انه اوسع وأكبر.
اجل ان اكثر ما يهذب الذات هي القيم التي تقهر الفرد طوعيا من اجل تربية الانا وتوجيهها في الجماعة والمجتمع.
نحن نعلم نشأة الاسلام، وكيف وزع الرسول (ص) الادوار على المسلمين الاوائل: فهناك الهجرة الاولى الى الحبشة ودورها في تعريف المحيط الجغرافي بالدعوة.
ـ الهجرة الثانية ومبيت الامام علي على الفراش كي يسلم الرسول.
ـ ورحيل الرسول وابي بكر.
ـ وقعة بدر ودور التنظيم والانصهار فيها الذي خلق الانتصار.
ـ وقعة احد وضياع الامتثال للرسول والهزيمة رغم وفرة العدد بسبب عدم الامتثال للمنظم.
العالم كله يشهد تاريخيا اهمية دور العمل التنظيمي فكان الياباني اكثر ولاء للوطن وخاصة في معركة " بيرل هاربر ".
الثورة الجزائرية عرفت التنظيم الصحيح حيث كان الشعار " كل شيء في خدمة الاستقلال ".
الخلية في جبهة التحرير الجزائرية كان همها تلقي الاوامر دون ان تعلم من الآمر حتى لا يكتشف سر القيادة، وبعد عمليات التعذيب التي كان يتعرض لها المتهم كان يقول بان الرسالة امرته " والحق على الرسالة ".
وقول الرسول: " ان يد الله مع الجماعة "، مع الفهم الصحيح لكلمة يد الله ومفهومها اللانهائي الشامل يلقي الاضواء على اهمية ولادة الجماعة.
اما الآية الكريمة: " قل انما اعظكم بواحدة ان تقوموا لله مثنى وفرادى " [سبأ\46]، فإن كلمة مثنى وهي رمز التجمع تسبق كلمة فرادى بعكس الترتيب الطبيعي.
فلنعلم اذاً أن عدم التنظيم يخلق بعثرة في الجهود ويفقد التخطيط قوته وفعاليته ومن هنا كانت ضرورة الاطاعة العسكرية والتنظيمية.
ولكن المدهش هو القسم الاخر من الآية "... ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " ذلك ان اهداف الرسول المعلنة كما حصل في " غزوة الخندق " عندما قال الرسول: " ارى في الشرارة الصادرة عن كسر الاحجار قصور كسرى وقيصر "، وغير المعلنة، كانت تجعل لسان وآراء المنافقين والضعفاء لغير مصلحة الرسول وضد النهضة المحمدية حتى بلغ ذلك درجة اتهامه بالجنون.
فيقول القرآن الكريم: ان القيام الصحيح ـ لله جماعيا ـ اي منظما ـ وفرادى ـ اي مع صناعة الفرد لذاته هو الذي يحقق المعجزات فترون ان نبيكم ليس مجنونا في اهدافه ومطامحه.
وأوضح التعاليم القرآنية في مبدأ التنظيم هو الآية: " والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان " [ الرحمن \ 7 ـ 8 ]، حيث يجعل النظام الكوني رؤية اساسية للنظام الحياتي.
ويؤكد على وجود النظام الدقيق في الكون، في السماء والارض، ذلك لكي يحاول الانسان ان ينظم عملهاليومي وألا يخرج عن الموازين.
اما تاريخنا العام، وبخاصة سلوك آل البيت، فانه يضم نماذج تؤكد وجود التنظيم لديهم.