السَّفَر الرابع :
( من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام بعد قَتْل أخيها الحسين (عليه السلام) وأصحابه الأبرار تحت رعاية الظالمين ، ويشتمل هذا السفر على خطبتَيها البلغتَين في الكوفة وفي مجلس يزيد في الشام ) :
الإشارة إلى بلاغتها وشجاعتها : لمّا عزم ابن سعد على الرحيل من كربلاء ، أمر بحمل النساء والأطفال على أقتاب الجمال ، ومرّوا بهنّ على مصارع الشهداء ، فلمّا نَظَرْنَ النسوة إلى القتلى صِحْنَ وضَرَبْنَ وجوههنّ ، وفِيْهِنّ زينب بنت علي (عليهما السلام) تنادي بصوت حزين وقلب كئيب :
يا محمداه ، صلّى عليك مليك السماء ، هذا حسين مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، إلى الله المشتكى ، وإلى محمّد المصطفى ، وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيّد الشهداء ، يا محمداه ، هذا حسين بالعراء ، قتيل أولاد البغايا ، واحزناه واكُرْباه عليك يا أبا عبد الله ، اليوم مات جدّي رسول الله ، يا أصحاب محمداه ، هؤلاء ذرّيّة المصطفى يُساقون سَوق السبايا ، وهذا حسين محزوز الرأس مِن القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي مَن أضحى معسكره يوم الاثنين نهباً ، بأبي مَن فسطاطه مقطّع العُرَى ، بأبي مَن لا غائب فيُرْجَى ، ولا جريح فيُدَاوَى ، بأبي مَن نفسي له الفداء ، بأبي المهموم حتّى قضى ، بأبي العطشان حتّى مضى ، بأبي مَن شَيْبه يَقطر بالدماء ، بأبي مَن جدّه محمد المصطفى ، بأبي مَن جدّه رسول إله السماء ، بأبي مَن هو سبط نبي الهدى ، بأبي محمّد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى ، بأبي فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، بأبي مَن ردّتْ له الشمس حتى صلّى . فأبكتْ والله كلّ عدو وصديق .
ولله دَرّ الشاعر حيث يقول :
والطُهْر زينب تستغيث بِندْبِهَا = غرقتْ بفيضِ دموعِها وَجَنَاتِها
رَقّتْ لِعظْمِ مصابها أعداؤها = ومِن الرزيّة أنْ تَرِقَّ عِدَاتُها
ثمّ إنّها (عليها السلام) سافرتْ هذا السفر المحزن وهي حزينة القلب كسيرة الخاطر باكية العين ناحلة الجسم مرتعدة الأعضاء ، قد فارقتْ أعزّ الناس عليها وأحبّهم إليها ، تحفّ بها النساء الأرامل والأيامى الثواكل ، وأطفال يستغيثون من الجوع والعطش ، ويحيط بها القوم اللِئَام من قتلة أهل بيتها وظالمي أهلها وناهبي رَحْلِها ، كـ :
شمر بن ذي الجوشن ، وزجر بن قيس ، وسنان بن أنس ، وخولي بن زيد الأصبحي ، وحرملة بن كاهل ، وحجار بن أبي أبحر ، وأمثالهم لعنهم الله ، ممّن لم يخلق الله في قلوبهم الرحمة ، إذا دمعتْ عيناها أهوتْ عليها السياط ، وإنْ بكتْ أخاها لطمتْها الأيدي القاسية ، وهكذا كان سفرها هذا .
ولقد تواترتْ الروايات عن العلماء وأرباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير ، قال :
قدمتُ الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستين عند مُنْصَرف علي بن الحسين (عليهما السلام) [ ومعه النساء والأطفال ] من كربلاء ، ومعهم الأجناد يحيطون بهم ، وقد خرج الناس للنظر إليهم ، فلمّا أقبلوا بهم على الجمال بغير وِطاء وجعلنَ نساء الكوفة يبكينَ وينشدنَ ، فسمعتُ عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول بصوت ضئيل وقد نهكتْه العلّة وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه : ( إنّ هؤلاء النسوة يبكينَ ، فمَنْ قَتَلَنَا ؟ ) .
قال : ورأيتُ زينب بنت علي (عليهما السلام) ولم أَرَ خَفِرَة أَنْطَق منها كأنّها تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال : وقد أَوْمأَتْ إلى الناس أنْ اسكتوا ، فقالت (عليها السلام) :
الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطيبين الأخيار ، أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر ، أتبكون ؟! فلا رَقَأتْ الدمعة ولا هدأتْ الرَنّة ، إنّما مَثَلُكُم كَمَثَلِ التي نقضتْ غَزْلَهَا مِن بَعْد قوّة أنْكَاثَاً ، تتّخِذونَ أَيْمَانَكم دَخَلاً بَيْنَكم ، أَلاَ وهل فيكم إلاّ الصَلِف النَطِف ، والصَدْر الشَنِف ، ومَلَقُ الإماء ، وغَمْز الأعداء ، أو كمرعى على دِمْنَةٍ أو كَفِضّةِ على مَلْحُودَةٍ ، أَلاَ ساءَ ما قدَمتْ لكم أنفسُكم أنْ سَخطَ الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون ، أَتَبْكون وتَنْتَحِبون ؟ إي والله ، فابْكُوا كثيراً واضْحَكُوا قليلاً ، فَلَقد ذهبتُم بِعَارِها وشَنَارِها ولَنْ ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قَتْل سليل خاتم النبوّة ومَعْدِن الرسالة وسيّد شباب أهل الجنّة وملاذ حيرتكم ومَفزَع نازلتِكم ومَنَار حجّتكم ومدره سنّتكم ؟ أَلاَ ساءَ ما تَزِرون ، وبُعْدَاً لكم وسُحْقَاً ، فَلَقَد خابَ السَعْي ، وتبّتْ الأيدي ، وخَسِرَتْ الصفقة ، وبِئْتُم بغضب من الله وضُرِبَتْ عليكم الذلّة والمسكنة ، ويْلَكُم يا أهل الكوفة ، أَتَدْرُونَ أيَّ كَبِدٍ لرسولِ اللهِ (صلى الله عليه و آله) فَرَيْتُم ، أيَّ دَمٍ له سفكتُم ، وأَيّ حُرْمَةٍ له انتهكتُم ، ولقد جِئْتُم بها صلعاء عَنْقَاء ، سوداء ، فقماء ، خَرْقَاء ، شوهاء ، كطلاع الأرض ، أو ملأ السماء ، أَفَعَجِبْتُم أنْ مَطَرَتِ السَماءُ دَمَاً ، ولَعَذابُ الآخرةِ أَخْزَى وأنتم لا تُنْصَرون ، فلا يَسْتَخِفَّنّكُم المهل ، فإنّه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثار ، وإنّ ربّكم لَبِالمِرْصَاد .
قال الراوي : فو الله لقد رأيتُ الناس يومئذ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم ، ورأيتُ شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلّتْ لحيته بالدموع ، وهو يقول : بأبي أنتم وأُمّي : كهولكم خيرُ الكهول ، وشبابُكم خيرُ الشباب ، ونساؤكم خيرُ النساء ، ونَسْلُكم خيرُ نسل ، لا يُخزى ولا يُبزى .
قال المؤلّف النقدي أعلا الله مقامه ، أقول : وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجبُ من فصاحة زينب وبلاغتها ، وأخذتْه الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبيّة ، حتى أنّه لم يتمكّن أنْ يشبّهها إلاّ بأبيها سيّد البلغاء ، فقال : كأنّها تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) .
وهذه الخطبة رواها كلُّ مَن كتب في وقعة الطف ، أو في أحوال الحسين (عليه السلام) ، ورواها :
* الجاحظ في كتابه ( البيان والتبيين ) عن خزيمة الأسدي ، قال : ورأيتُ نساء الكوفة يومئذ قياماً يندبْنَ مهتكات الجيوب .
* ورواها أيضاً أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور في ( بلاغات النساء ) .
* وأبو المؤيّد الموفّق بن أحمد الخوارزمي في الجزء الثاني من كتابه ( مقتل الحسين ) .
* وشيخ الطائفة في أَمَالِيْه ، وغيرهم من أكابر العلماء .
ومِن بلاغتها وشجاعتها الأدبيّة ما ظهر منها (عليها السلام) في مجلس ابن زياد :
قال السيد ابن طاووس وغيرهم وممّن كتب في مقتل الحسين (عليه السلام) : إنّ ابن زياد (لعنه الله) جلس في القصر وأَذِنَ للناس إذنَاً عامّاً ، وجِئَ برأس الحسين (عليه السلام) فوُضع بين يديه ، وأُدْخِلَتْ عليه نساء الحسين (عليه السلام) وصبيانه ، وجاءتْ زينب بنت علي (عليهما السلام) وجلستْ متنكّرة ، فسأل ابن زياد (لعنه الله) : مَن هذه المتنكرة ؟
فقيل له : هذه زينب ابنة علي (عليهما السلام) .
فأقبل عليها فقال : الحمد لله الذي فضحكم وأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكم .
فقالتْ (عليها السلام) : إنّما يُفْتَضَحُ الفَاجِرُ ويُكَذَّبُ الفَاسِقُ وهو غَيْرُنا .
فقال : كيفَ رأيتِ صُنْعَ اللهِ بأخِيْكِ وأهل بيته ؟
فقالتْ : ما رأيتُ إلاّ خيراً ، هؤلاء قومٌ كتب اللهُ عليهم القَتْل فبَرَزُوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينَكَ وبينَهُم فَتُحَاجّ وتُخَاصَم ، فانْظُرْ لِمَنْ الفَلَج يَومئذٍ ، ثَكَلَتْكَ أُمُّك يا بن مرجانة .
فغضب اللعين وَهَمّ أنْ يضربها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة والمرأة لا تُؤاخَذ بشيء مِن مَنْطِقِهَا ، فقال لها ابن زياد (لعنه الله) : لقد شفى الله قلبِي مِن طَاغِيَتِكِ الحسين والعصاة المَرَدَة مِن أهل بيتكِ .
فقالتْ : لَعمري ، لقد قَتَلْتَ كَهْلِي وقَطَعْتَ فَرْعِي واجْتَثَثْتَ أَصْلِي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فَلَقَد اشْتَفَيْتَ .
فقال (لعنه الله) : هذه سَجّاعة ، ولعمري ، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعِرَاً .
فقالتْ : يا بن زياد ، ما للمرأة والسجاعة ، وإنّ لِي عن السَجَاعَةِ لَشُغْلاً .
وفي ( لواعج الأشجان ) للسيّد محسن الأمين ( أعلا الله مقامه ) :
وكتب ابن زياد إلى يزيد يُخْبره بقتل الحسين (عليه السلام) وخبر أهل بيته . وساق الحديث إلى أنْ قال : وأمّا يزيد فإنّه لمّا وصله كتاب ابن زياد أجابه عليه يأمره بحمل رأس الحسين (عليه السلام) ورؤوس مَن قُتل معه ، وحَمْل أثقاله ونسائه وعياله ، فأرسل ابن زياد الرؤوس مع زَجْر بن قيس ، وأَنْفَدَ معه أبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة إلى يزيد ، ثمّ أمر ابن زياد بنساء الحسن (عليه السلام) وصبيانه فجهزوا ، وأمر بعليّ بن الحسين فَغُلّ بِغُلٍّ إلى عنقه ، وفي رواية في يديه ورقبته ، ثمّ سرح بهم في إثر الرؤوس مع محفر بن ثعلبة العائدي وشمر بن ذي الجوشن ، وحملوهم على الأقتاب وساروا بهم كما يُسار بسبايا الكفّار ، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس ، فلم يكلّم علي بن الحسن (عليهما السلام) أحداً منهم في الطريق بكلمة حتى بلغوا الشام ، فلمّا انتهوا إلى باب يزيد رفع محفر بن ثعلبة صوته فقال : هذا محفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة ، فأجابه علي بن الحسين (عليهما السلام) : ( ما ولدت أم محفر أشر وألام )