"فصل الدين عن الحياة"
كثيرة هي المزاعم المتعلقة بالعلمانية الغربية والكلام عن "فصل الدين عن الحياة الإجتماعية والسياسية" في دول الغرب. فأوروبا لم تفصل الدين عن الحياة، لا في عصر النهضة، ولا في عصر التنوير، ولا في عصور التصنيع المتتالية، ولا الآن في عصر الثورات التكنولوجية الحديثة.
(.. لقد بدأت أولى ملامح النهضة الأوروبية ترتسم على ضربات إزميل وفرشاة "مايكل أنجلو" الإيطالي وغيره من المبدعين. فماذا نحت وماذا رسم مايكل أنجلو أحد أعظم روّاد النهضة الثقافية الأوروبية؟ نحت تماثيل للسيدة مريم العذراء ويسوع الطفل، وأخرى تحكي قصة الخلق وسَير القدّيسين كما وردت في الكتب المقدّسة، ولكنه أودع تضاعيف الحجر أجمل معاني النهضة وأكثرها عمقاً، إذ عبّرت تلك الرموز المقدّسة عن بدايات التحرّر من الجمود الذي كان جاثماً على صدر أوروبا، وتجسّدت تمرّداً صريحاً على المفاهيم والقيم التي شرّعت للإقطاع مظالمه وظلماته.
أما مفكرو النهضة وفلاسفة التنوير فقد أدانوا الفكر الكنسي الرسمي باعتباره أهم مسوّغ فكري للحقبة الإقطاعية، ودعوا إلى إحياء النزعة الإنسانية وتحرير البشر من مختلف أشكال القهر الدنيوي، وتمجيد العقل الإنساني، ورفع شأن العلم، ودحر البدع والخرافات، وكرّسوا الشعب مصدراً لكل السلطات، ولا ريب أن هؤلاء المفكرين والفلاسفة كانوا أكثر مسيحيّة من مفكّري الكنيسة الرسميّة، ولم يقولوا بنبذ الدين أو حصره في العبادات، بل حثوا الدولة البرجوازية الجديدة، الناهضة من بين أنقاض الإقطاع، على العودة إلى تعاليم المسيحيّة الأصلية القائمة على العدل والسلام والتسامح.
لم تتجسّد النهضة وحركة التنوير العقلي إذن، في انسحاب الدين من حياة الدولة والمجتمع، بل في تكريس رؤية جديدة للدين جعلت منه قوّة ذاتيّة دافعة لا معيقة.
أما اليوم، وفي خضم الثورات العلمية والتكنولوجية التي تعيشها المجتمعات المتقدمة في الغرب، نجد الدين كمؤسسات ومرجعيّات وجماعات وأفراد، يتدخّل في تفاصيل الحياة الدنيوية لهذه الشعوب، ويمارس نفوذه في عملية البت بجميع القضايا المطروحة على بساط البحث، بدءاً بالزواج والطلاق وقوانين الأسرة، مروراً بالإجهاض وحمولة الأنابيب وتحديد النسل وزرع الأعضاء البشرية والإستنساخ، وانتهاءً بمختلف الشؤون السياسية المتعلقة بالأحزاب والمسائل الإنتخابية والتشريعات والقوانين الإقتصادية المرتبطة بالمؤسسات الإنتاجية والمالية والتنظيمات العمّالية والمهنية والتعليمية المتصلة بمناهج التدريس في المدارس والجامعات، بالإضافة إلى كل المشكلات الإجتماعية والثقافية والقيمية التي يتم تداولها في مجتمعات الغرب). هذا برغم وجود مظاهر للتفسّخ الخلقي والذي يعود أكثره لنقص في الدين نفسه ولعدم الإقتناع به من قبل الكثير.
وهاهو ذا الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، رئيس أكبر دولة غربية في الثمانينات، يصرّح ويقول : "إن الكتاب المقدّس يضم كل الإجابات على قضايا العصر، وعلى كل الأسئلة الحائرة إذا ما قرأنا وآمنا ... إن الأموال التي ننفقها في محاربة المخدرات والمسكرات والأمراض الإجتماعية يمكن توفيرها لو حاولنا جميعاً أن نعيش وفق الوصايا العشر ... لقد أخبروني أنه منذ بداية الحضارة سُنّت ملايين القوانين، لكنها جميعاً لم تصل إلى مستوى قانون الله في الوصايا العشر".
ويضيف : "لا يوجد شيء اسمه الفصل بين الدين والسياسة، إن القائلين بهذا الفصل لا يفهمون القيم التي قام عليها المجتمع الأمريكي".
ألا يكفي كلّ هذا لدحض النظرية القائلة بأن الغرب فصل الدين عن الدولة (أوعن الحياة) ؟ فليقل لنا أصحاب هذه النظرية أين تقع الدولة المفصولة تماماً عن الدين إذا كانت المرجعيات الدينية المسيحية تتدخّل مباشرة وعلانية في الشؤون العامة وفي الشؤون السياسية، ممارسة تأثيرات مهمّة على مجرياتها ومساراتها واتجاهاتها وطرائق التعاطي معها؟